
فتحت ثورة وسائل التواصل الاجتماعى، المجال العام الرقمي الوطني والمحلي والإقليمي، والكوني –اذا ساغ التعبير- واسعًا امام الجموع الرقمية الغفيرة، للتعبير عن آراءها السياسية والشخصية، وانطباعاتها المرسلة وأكاذيبها، وأوهامها، فى كل تفاصيل الحياة اليومية، والشخصية وتجاه السلطات السياسية الحاكمة، على نحو انفجارى، وأدت إلى حالة من المتاهة الرقمية، وانكشافات واسعة النطاق، والمجالات، على نحو أصبحنا أمام حالة من التعري للجموع الرقمية الغفيرة لشخوصها، وذواتها، على نحو يمكن أن تطلق عليه السعى الشخصاني نحو إثبات وجود الذات فى العالم، ومحاولة جذب اعتراف الآخرين بوجودهم.
هيمنة صخب الجموع الرقمية الغفيرة ترتكز على الولع بالحضور الذاتي فى الحياة، من خلال الصور الذاتية، في كل أحوال وتفاصيل السياسة والحياة، بات الملمح الرئيس في كافة وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال انفجار خطابات المنشورات والتغريدات، وخطاب الصور الذاتية، والفيديوهات الطلقة الوجيزة، وفائقة السرعة.
السؤال ما تأثير هذه الظاهرة الرقمية على مفهوم الحريات العامة السياسية والدستورية في المجتمعات العربية، والواقع الموضوعى في هذه البلدان؟
أدت إلى حالة من بعض الفوضى الرقمية، وفى ذات الوقت ادت عليه الذات وتفاصليها، ورغباتها ومشهدياتها، بل وانكشافاتها على الحياة الرقمية ومعها خصوصياتهم، وإلى حالة من التذرى، والتشظى بين الواقع الفعلى، والواقع الرقمي. في السعى إلى إثبات الوجود، والتوق إلى اعتراف الأشخاص الرقميين الآخرين، وهو ما يؤثر سلبا على بعض من أشكال التنظيم حول قضايا ومشكلات الواقع الفعلى في المجتمعات العربية الانقسامية.
من الملاحظ أيضا انفجار الأخبار السوداء الكاذبة وغير الحقيقية على الحياة الافتراضية في السياسة، والفنون، وفي نسبة مقولات، واراء وحكم شخصية مرسلة وساذجة في عديد الأحيان الى شخصيات عالمية وعربية وتاريخية في السياسة، والأدب، والفلسفة.. إلخ!
الأخبار السوداء الكاذبة باتت جزءًا من الواقع الافتراضي، بعضها ذو طابع سياسى ودينى معارض، وبعضها بات جزءًا من الترهات والتسطيح المعبرة عن ضعف مستويات المعرفة والتعليم، والوعى السياسى والدينى والاجتماعى السائد في مجتمع عربي أو جماعة آيا كانت داخله .
من الظواهر الرقمية المتفجرة الجدل اللاتاريخي واللاموضوعيدوالمشوه عن بعض الشخصيات السياسية او الفنية أوالأدبية .. الخ ، كجزء من حالة التوهان التاريخي وسط بعض الجموع والأفراد الرقميين ، أو الأفراط في استدعاءاتهم علي وسائل التواصل الاجتماعي والمنشورات والتغريدات والصور والفيديوهات ،وبعض خطاباتهم السياسية ، او أغنياتهم ، او موسيقاهم .. الخ ، او بعض قيمهم او سلوكياتهم من حيث البخل او الكرم ، او غيرها من السلوكيات التي لايعرفها غالب الجمهور ! لاشك ان تقديس بعض المشهورين ، واالنأي بهم عن التناول النقدي او أدراني يعكس النزعة الي الامتثال إلى مفهوم الشهرة ، او المكانة دون دراسة وتحليل سوسيو نفسي لهؤلاء وعلاقاتهم بالسلطة الحاكمة ، او ذوي المكانة في حياتهم ! نزعة دالة علي غياب حرية النقد والتعبير كقيمة وممارسة في واقع سياسي معتقل سلطويا ، وايضاً الي ضحالة النظرة والمعالجات التاريخية الموضوعية ، او الإبداعية لهذه الشخصيات العامة في زمنهم ! هذال النمط من الملاسنات والقدح والذم والمدح ، هي جزء من سياقات الاستهلاك الرقمي الذي يبتعد عن الفكر النقدي الحر ، ومن ثم تكريس الفكر المرسل والانطباعي واللاتاريخي !
الفوضى الرقمية أدت إلى ظواهر اثارية تستهدف جذب التفضيلات Likes في محاولة لإثبات الحضور، وتحقيق بعضهم لبعض من مفهوم “الشهرة الرقمية” لمواجهة تراجع المدة الزمنية للشهرة الفعلية، للفنانين والفنانات عالميا ومحليا.
لا شك أن ذلك بات موضوعًا لشركات ومكاتب وشخصيات محترفة يتم استخدامها في الترويج الرقمي، وتستعين بعض السلطات السياسية والممثلين والممثلات في ابتداع “الترندات”، من اجل الترويج للشهرة، وأيضا توظف الصحف والمجلات صفحاتها الرقمية لهذه الترندات لا سيما فى العلاقات، والخلافات بين الفنانات والفنانين، وآراءهم النافرة عن العقلانية، أو الرشد، أو التعبيرات النابية، أو الأثارية لفظًا ومحتوى، وأيضا الصور والفيديوهات الوجيزة فى إبراز مفاتن الجسد، وبعض من العرى الأثاري، وذلك لأداء الوظائف التالية:
1- جذب اهتمامات الجموع الرقمية الغفيرة نحو هذا النمط من الترندات الاثارية لفظا، وجسدا وسجالات حولها .
2- كسر بعض السلطات العربية بعض الاستقطابات السياسية والاجتماعية فى ظل القيود على الحريات العامة، والشخصية، وعسر الحياة عند الحافة للأغلبيات الشعبية، والطبقة الوسطى الصغيرة.
3- توليد نمط من خطاب الأثارة الدينية المضادة يرتكز على بعض المقولات الدينية والأخلاقية فى مواجهة الترندات الأثارية الفنية والسياسية السلطوية والحزبية المضادة . بعضها قد تكون عابرة وعفوية وغير منظمة من بعض من أفراد الجموع الرقمية الغفيرة . بعض الإثارة المضادة قد تكون منظمة من بعض المشايخ، ورجال الدين المسيحيين، وبعض الدعاة السلفيين. بعض الإثارة المضادة قد تكون منظمة من الجماعات الإسلامية السياسية، والسلفية، بهدف تديين وسائل التواصل الاجتماعى، ونشر وتوزيع خطاباتهم الدينية والأخلاقية، وسط الجموع الرقمية الغفيرة، وتعبئة بعضها دينيا إزاء السلطات السياسية الحاكمة.
لا شك أن ظواهر الترندات الإثارية ، تبدو مؤثرة على اهتمامات الرآى العام في الحياة الرقمية، والفعلية ، وتساهم فى تكريس ظواهر موت السياسة في الواقع الفعلى الموضوعى عربيًا، وذلك نظرا لما تكرسه من اغراق الحياة الرقمية بتفصيلات حياة بعض الشخصيات العامة والفنية ، او بعض الجرائم الجنسية والجنائية وغيرها ، علي نحو يؤدي إلي تشتيت العقل شبه الجمعي ، واثارة ثقافة ونزعات النميمية لدي الجموع الغفيرة علي نحو يبعدها عن مشاكل الواقع الفعلي وأزماته ، وسياسات السلطات الحاكمة الاستبدادية او التسلطية ، وبعض قادتها يميلون إلي طرح بعض من المقولات الدينية التراثية الوضعية لكسب رضا الفئات الشعبية ، وداعمي حكمهم ، او من يعارضونهم بكل مترتبات ذلك ، وعلي رأسها التركيز علي النزاعات الدينية السياسية ، وتشتيت الأهتمام بقضايا الحريات المعتقلة او المصادرة ، وايضاً عن اختلالات الدولة البنيوية ، ومعها النظام السياسي ، لاسيما الفساد الهيكلي والوظيفي ، وضعف فاعلية القانون في التنظيم والضبط الاجتماعي ، وغياب ضمانات الفرد القانونية حال القبض عليه لاسيما من جهات الضبط الأمني والاستخباراتي ، واتهاماتها للأفراد بأتهامات عامة وغامضة ومرسلة ، في ظل مشاكل عدم استقلال القضاء والجماعات القضائية في عديد البلدان العربية ، وهو مالات موضعا لانتقادات واسعة في تونس .
4- الظواهر الرقمية السابقة وغيرها ، وتمددها أثر سلبًا على الوعى السياسى والاجتماعى للجموع الغفيرة، على الرغم من استخدام بعض الأفراد الرقميين، وبعض المعارضات لخطابات التغريدات على موقع X أكس، فى النقد، والتشهير والأخبار الكاذبة، وفى الترويج للغة النابية والجارحة إزاء بعضهم بعضا، أو تجاه بعض السلطات الحاكمة عربيًا، ورئيس الدولة آيا كان، بهدف التحريض السياسي عليهم، وتوسيع الفجوات الفعلية والرقمية، بين الحكومات وأجهزة الدولة والسلطة ، وبين الأجيال الشابة من جيل (Z) وآلفا.
لا شك أن هذه الظواهر الرقمية ، وتفاقم ظواهر موت السياسة، وتنامي الوعي بالفردية ، والتشظى أدت إلى تكريس وتمدد الأنامالية السياسية، وعدم الانتماء الوطنى على نحو ساهم فى كراهية السياسية، وخاصة فى ظل تدنى مستويات التعليم العام والجامعى، وغياب وتشوه وتشوش الوعى التاريخي الوطنى داخل كل مجتمع من المجتمعات العربية، خاصة في ظل هيمنة السردية التاريخية السلطوية المشوهة والمبتسرة لتاريخ كل بلد ومجتمع عربي.
6- من ثم نستطيع القول أن التفاعلات بين الحياة الرقمية، والحياة الفعلية، أدى إلى شروخ في الوعى الاجتماعى والسياسي الجمعى المضاد للدولة الوطنية، والى اللجوء إلى التذري فى الأنسجة الوطنية الجامعة، ومن ثم إلى بعض من تقوقع الذات الفردية حول ذاتها، وهمومها، ورغباتها ، وتطلعاتها الاستهلاكية المفرطة نظرا لشيوع نزاعات استهلاكية جامحة سواء كان الفرد قادرا على إشباعها، أم ظلت أحد مراكز اهتماماته ورغباته وأحلامه في إشباعها، وهو ما أدى إلى تسليع الفردية، والحياة، وإلى تراجع كل ما هو حقيقي إلى تمثيل –وفق جي ديبور-، وإلى نزعات وسلوكيات استعراضية ، وهو يكرس حالة من الركود السياسى والعبودية السلعية التي تحاصر الفرد تفكير وسلوكا ، والأخطر في مجتمعات العسر العربية وأزماتها الاقتصادية والاجتماعية تسيطر حالة العوز او عسر الحياة والتضخم والدخول التي لاتساوقه علي عقل فئات اجتماعية واسعة ، ومن ثم تبدو حالة الضرورة مسيطرة علي الأفراد والأسر في كيفية مواجهة حالة العسر الاقتصادي ، وينصرف اهتمامتهم بعيدا عن الحريات السياسية المصادرة في بلدانهم .
8- هيمنة النزعات والطموحات الاستهلاكية – لاسيما من جيل Y ، Z أدت إلى طموح ورغبات عارمة في الاستهلاك ، ونزعة شراء بعضهم للسلع ، والخدمات بالتقسيط، ، والقروض المصرفية، التى تحد جزئيًا من الدعوات للتظاهر السياسي، أو الرفض لسياسات الحكومات، وهو ما ظهر بعد أسابيع من الربيع العربى حيث اضطر بعض من أبناء الطبقة الوسطى / الوسطي إلى العودة إلى منازلهم، خشية من الفوضى، والبطالة وغياب الأمن حال استمرارية التظاهرات فى الشوارع.
9- أدت التفسيرات النقلية الجبرية النزعة المهيمنة على بعض رجال الدين المسلمين –ومعهم بعض من المسيحيين الأرثوذكس الشرقيين- في تفسيراتهم وتأويلاتهم اللاهوتية للنص المقدس، وسردياته، وايضاً هيمنة الموروث التفسيرى والتأويلى النقلى لدى أهل السنة والجماعة علي بعض رجال الدين الرسميين والمعارضين لهم ، وأيضا لدى بعض من الشيعة الأثنى عشرية، وهو ما ادي إلى تداخل هذه النزعة الجبرية مع الدين الشعبى، ومحمولاته الماورائية والميثولوجية المصاحبة للثقافات الشعبية فى غالب البلدان العربية الزراعية والصحراوية ، ومن ثم إلي تسييد الموروثات النقلية على العقلية، وأيضا إلى نمط من الاتكالية والكسل، والميل الى نفى مسئولية الفرد، وقيمة العمل الجاد الدئوب، والكفء. وتداخل تقلبات الطبيعة مع مكونات الدين الشعبى، وفرض إدراكات الطبقات الشعبية، وغالب الوسطى لهذه التغيرات الطبيعية والمناخية على رسوخ النزعة الجبرية ، ونفي الإرادة الفردية.
10- كرس هذا النمط من أنماط التدين الشعبى هيمنة مفهوم الجماعة على الفردية الغائبة، التى تتشكل الأن مع ثورة الحياة الرقمية ووسائطها، والنزعات الاستهلاكية المفرطة ورسملة النظام الاقتصادى خاصة مع النيوليبرالية ، وسطوة التسليع لكل تفاصيل الحياة اليومية العربية. أن مفهوم التدين الجماعى، أدى إلى اقصاء مفهوم التدين االفردى ومحمولاته في العلاقة المباشرة بين الفرد والله سبحانه وتعالي وتنزه ومسئوليته عن أعماله امام الله ، وليس أمام الجماعة، والتبعية لرجال الدين آيا كانت ديانتهم ومذاهبهم فى المجتمعات العربية، وسلطتهم وسطوتهم على الوعى شبه الجمعى للمؤمنين واتباع الدين والمذهب، وتبعيتهم لولاية الحاكم المتغلب فى الفقه السنى على سبيل المثال ، وتركيز بعض دعاة المذاهب الأخرى علي التمايزات والخصوصيات المذهبية لمذاهبهم ، وانها مثال لصحيح الدين في مواجهة مذهب الأغلبية في هذا المجتمع او ذاك علي نحو ساهم في تكريس الأنقسامات والطائفية والمذهبية في بنية المجتمعات العربية الانقسامية .
11- أدت سطوة العقل النقلى إلي حصار العقل الدينى التجديدي والإصلاحي والأخلاقي، وتهميش علم الكلام – الفلسفة الإسلامية العقلية والنقدية -، ومن ثم الي تراجع بعض مشروعات التجديد التفسيرى والتأويلى، الذي يوائم بين النص ومتغيرات العصر، ومواجهة الأسئلة التى تطرحها بعض التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، والتقنية فى مجال العلوم الطبيعية. ومن ثم تكرست حالة عامة من الانفصال بين التعليم الدينى، وبين تطورات العلوم الإنسانية النظرية والتطبيقية، والعلوم الطبيعية، والتكنولوجيا، والاكتشافات العلمية الجديدة، والمتغيرة فى كافة المجالات.
12- ساعد على هذه النزعة السياسية الدينية الرسمية، والدور الوظيفي الدينى والسياسي لرجال الدين، والتعليم الدينى النقلى، فى دعم ومساندة السلطات السياسية العربية الحاكمة، وأيضا فى تبعية رجال الدين لها، وفي ذات الوقت يساهم التعليم الديني النقلي وطابعه القائم علي ملكة الحفظ والتكرار للموروث الدينى الوضعى فى هيمنة التسلطية السياسية علي التسلطية الدينية التابعة لها، وأدى ذلك إلى أنماط من التسلطيات الدينية والمذهبية الإسلامية بل، والمسيحية الارثوذكسية الشرقية فى المشرق العربى، ومصر والسودان.
13- أدت التسلطية السياسية، والاستبداد السياسي والتسلطيات الدينية والمذهبية التابعة الى تصفية الاتجاهات النازعة إلي التجديد الدينى التى بدأت بوادرها في منتصف القرن الثامن عشر ثم مع الدولة الحديثة ، مرورا إلى المرحلة شبه الليبرالية في مصر، وتمدد اثرها فى بعض البلدان العربية السنية، ثم تمددت فوائضها مع هزيمية الخامس من يونيو 1967. ( للحديث بقية ).
المصدر: الأهرام






