دقق النظر ولا تنخدع… إنه العدو نفسه

د. مخلص الصيادي

ليس أمرا جانبيا، ولا حدثا منفصلا، أن تعلن حكومة العدو الصهيوني اعترافها بدولة “أرض الصومال”، لتكون بذلك الدولة الوحيدة في العالم التي تخطو هذه الخطوة،  وكانت القوى المسيطرة على هذا الجناح من الصومال أعلن عن دولته هذه المنفصلة عن الجمهورية الصومالية منذ العام 1991، وذلك بعد 31 عاما من تشكيل جمهورية الصومال من الأقاليم الصومالية التي كانت خاضعة للدول الاستعمارية المختلفة، لكن أحدا لم يعترف بهذا المولود، وقد تبين سريعا أن هذه الخطوة التي فاجأت حتى واشنطن قد جاءت على خلفية موافقة هذه الحكومة على خطط تل ابيب في تهجير الغزيين وإبداء استعدادها لاستقبالهم في كيان “أرض الصومال”.
ليس أمرا جانبيا، ولا حدثا منفصلا أن نشهد ولادة كيان جديد في جنوب اليمن ضد إرادة اليمنيين في الوحدة الطبيعية بين أبناء البلد الواحد، وضد الإرادة الجماعية لدول الخليج العربية التي تتجه الى تمتين عوامل التناسق والوحدة بين دولها، ورغم أن شيئا واضحا لم يظهر بعد، لكن ليس بعيدا ولا غريبا أن نكتشف اليد الإسرائيلية وراء هذا الحدث الذي من شأنه أن يخلق توترا جديدا وخطرا ـ بعد الخطر الحوثي / الإيراني ـ في هذه المنطقة الحساسة في ملف الأمن القومي والوطني، وفي التأثير الجيوسياسي على المنطقة كلها.
وليس مشهدا عابرا أو جزئيا أن نرى التعثر في مسار حل أزمة قسد على الساحة السورية، كلما اعتقدنا أن هذا الملف إلى حل، وأن نشهد تفجير للوضع الأمني، وقصف قسدي لأحياء عدة في حلب، وأن تصدر تصريحات مخربة للإقليم كله على لسان قائد قسد “مظلوم عبدي” نشرت في 21 ديسمبر 2025، وفيها أن العام 2026 سيكون عام الوحدة الكردية للأقاليم الأربعة في “روج آفا”، أي في سوريا، وتركيا، والعراق، وإيران. ثم نرصد ترابطا في الحركة والتوجه بين قسد وحركة الهجري في السويداء، تسليحا وتمويلا وتوجها، وتواصلا وترابطا مع “الفلول” في الساحل السوري، وتجمعاتهم في لبنان والعراق وفي دول عدة خارج الإقليم.
وفي التدقيق نرى الكيان الصهيوني في موقع المحرض والداعم والفاعل في هذا الحراك كله، وهو يتطلع لفتح مسار بين هذه الجيوب كلها لتساهم في رسم معالم” ممر داوود الذي رسمه الفكر التوراتي الصهيوني وبات بمثابة خارطة طريق لتحرك “أدوات الكيان الصهيوني” في المنطقة.
ثم إننا حين ننظر إلى الهجمات التي نفذتها عناصر مما يدعى ب “أنصار السنة” ضد الكنيسة المعمدانية في دمشق في 22 / 6 / 2025، وضد القوات الأمريكية والقوى الأمنية السورية في تدمر في 13 / 12 / 2025، وضد مسجد على بن أبي طالب في وادي الذهب بحمص في 26 / 12 / 2025، فلن يعجزنا أن نرى الأثر “الإسرائيلي والإيراني” معا في هذه الهجمات التي تستهدف إشغال الداخل السوري وسلطاته عن تثبيت الاستقرار والأمن، وإظهار عجزها عن تحقيق الأمن الداخلي ما يعطي كل المكونات والتحركات الانفصالية مبرراتها من قسد حتى السويداء مرورا بالساحل، وصولا لأي مكان آخر في سوريا قد تظهر فيه تحركات انفصالية جديدة.
إن هذه الهجمات التي ينفذها “أنصار السنة أو داعش”، أو تنفذ تحت هذه العناوين، وتلك التوجهات الانفصالية هنا وهناك، إنما تستهدف كلها إرسال رسائل إلى الأمريكيين، وإلى المجتمع الدولي، للشك في قدرة القيادة السورية على ضبط الوضع، وبالتالي عدم صوابية أي اتجاه للتخلي عنهم وعن أدوارهم في سوريا.
على السوريين جميعا أن يرتقوا في وعيهم وفهمهم إلى مستوى رؤية كل أطراف هذا المشهد على حقيقته، ورؤية أدوار القوى الداخلية والإقليمية ومخاطرها على سوريا وطنا وشعبا، ومن ثم أن يبنوا تحركاتهم وتوجهاتهم وتحالفاتهم على هذا الأساس.
وإذا كان هذا مطلوبا من السوريين جميعا بمختلف مواقعهم وأدوارهم وتشكيلاتهم، فإنه مطلوب أكثر من أصحاب القرار المتسلمين لزمام الأمر، بحكم مسؤولياتهم، في إدارة شؤون البلاد ومقدراتها.
نحن على مشارف عام جديد، وهو عام سيكون ـ وبكل الاعتبارات ـ عاما حاسما للمستقبل السوري، فإما سوريا موحدة ناهضة تستعيد دورها الإقليمي والقومي والإنساني، وإما مرحلة جديدة من الفوضى، والصراع، وبقدر ما هناك من دول وقوى تريد لسوريا الاستقرار والأمان، وتخشى أي احتمال آخر، فإن هناك دولا وقوى محلية وإقليمية لا تريد ذلك.
والفيصل في نتائج ما يمكن أن يحدث في هذا العام لا يتوقف أساسا على فعل القوى المعادية، وإنما على فعل القوى التي تقود سوريا، ففعل هذه هو ما سيحسم الأمر في نهاية المطاف.
والفيصل في قدرة القوى السورية على صناعة مستقبلها يعتمد على قدرتها في تحقيق وحدة السوريين واجتماعهم على أهداف محددة، وقيم محددة، ومسارات محددة. وتجربة العام الذي انقضى لم تحقق ما كان مأمولا منها، بل لعلنا لا نخطئ إذا قلنا إن التحديات الرئيسية التي كانت أمام القيادة السورية بداية العام 2025، ما زالت ـ تقريبا ـ كما هي، وما زالت مهمات مطروحة على طاولة السوريين تنتظر الإنجاز:
1ـ صحيح أن القيادة أنجزت بعون عربي وإقليمي واضح مهمة رفع العقوبات الدولية عن سوريا، وقمتها عقوبات قيصر، وهو إنجاز مهم، ومهم جدا، لكنه في جوهره جاء بعدما أمكن للثورة أن تسقط النظام الأسدي البائد، أي أنها أسقطت الأساس الموضوعي لهذه العقوبات، وبالتالي فإن إسقاط هذه العقوبات بات من اللوازم، وبقاءها يمثل عدوانا على الشعب السوري، إن كل الدعم الذي تلقته السلطة السورية كان مهما في تجاوز العقبات الإدارية البيروقراطية في الوصول إلى هذه النتيجة، إلا أن تضحيات الشعب السوري: مليون قتيل وشهيد، وعشرات آلاف المفقودين، وثلاثة عشر مليون نازح ولاجئ، وآلاف المنازل والحواضر المدمرة، كانت هي الثمن لإسقاط النظام، وبالتالي هي الممهد الحقيقي لإسقاط العقوبات.
للقيادة السورية أن تشكر من ترى من الواجب شكره لمساعدتها على تحقيق هذا الإنجاز، لكن عليها أن تعي بعمق وإيمان صادق أن الثمن لذلك الإنجاز دفعه الشعب السوري، ولم يأت منة أو فضلا من أحد، وأنه ليس على القيادة السورية أن تدفع لأي أحد غير الشعب السوري ثمن هذا الإنجاز.
2ـ بناء سوريا على قاعدة المواطنة واجب وطني ومقياس للوطنية، وقد تعهدت القيادة السورية مبكرا بالتزام هذا المقياس، وبإشادة كل عمل جديد داخل سوريا وخارجها على أساسه، وتم توثيق هذا التعهد في “الإعلان الدستوري”، لكن خروقا عديدة اصابت هذا التعهد.
منها الطريقة التي أقيم فيها “مجلس الشعب”، وهي طريقة لا تمت لمفهوم الديموقراطية بأية صلة، وأقصى ما يمكن أن توصف به أنها أنشأت مجلسا استشاريا يساعد الرئيس في ترشيد قراراته، ولا نقول ذلك انتقادا لوجود مجلس على هذا النحو، فإن “حق المنتصر” يوفر أساسا لمثل هذا التصرف ما دام لمرحلة انتقالية، وليس الوضع السوري بدعة غير مسبوقة، لكنا نوجه النقد لاعتبار هذا العمل جزءا أو تجسيدا لمفهوم الديموقراطية، والأمر ليس كذلك.
ومنها أنه لم يتم العمل على إعادة بناء الجيش الوطني على قاعدة المواطنة، وما زال الوضع وضع فصائل وليس جيشا، وكان هذا الوضع سببا رئيسيا في “التجاوزات، والجرائم الطائفية” التي وقعت من القوى العسكرية الرسمية في معالجة ملف السويداء، وليس صحيحا أن الأمر كان مجرد تجاوز لقوى غير منضبطة. وكذلك في الهجمات التي وصفت ب ” الإرهابية ” في دمشق وتدمر وحمص، وليس صحيحا أن هذه الوقائع نتيجة تسلل عناصر داعشية فكرا أو تنظيما الى جسد أو في جسد القوى الأمنية. إن الأمر في الحالتين أخطر وأعمق مما وصف وذكر.
3ـ في كل يوم يمضي يظهر أن “وباء قسد” يمتد إلى مناطق جديدة في سوريا، وقد يمتد الى تجليات جديدة غير تلك المستندة الى الطائفية والأثنية، كمثل التجليات القبلية والمناطقية، مما يدخل البلاد في أشكال من التفتيت لا يحمد عقباها، وما يشجع على ذلك، ويدفع إلى التخوف منه أن علاجات القيادة السورية للحالات الراهنة تقوم حتى الآن على عنصر “التنازل”، أي الاستجابة إلى بعض المطالب، ثم بعض المطالب، ثم بعض المطالب، وهكذا، وهذا نهج يوحي للآخرين أن هذا هو طريق الحصول على “المكاسب”، وتحقيق الأهداف، وهذا أخطر أشكال “إدارة الصراعات”، ونهايته الطبيعية والحتمية هو ضياع البلاد وتفتيتها. بعد انفضاض الحلفاء والأنصار من حول أصحاب هذا النهج.
4ـ لكل ما سبق نقول إن سوريا التي تهددها الآن أخطارا تمس وحدتها المجتمعية والجغرافية، ودورها الجيوسياسي، تتطلب من قيادتها مكاشفة مع الشعب السوري حقيقية، وشفافة، في حقيقة هذه الأخطار، وفي البحث المشترك عن طرق التعامل معها، مكاشفة توفر وتبني رؤية وإجماعا وطنيا، يعطيها من الوضوح والقوة والسند ما يمكنها الخروج بسوريا من هذا الوضع، وتجاوز هذه المخاطر، وهذا لن يتحقق إلا من خلال مؤتمر وطني عام، يجمع كل فعاليات المجتمع السوري وقواه وهيئاته، وأحزابه، يتم من خلاله رسم طريق الخروج من المأزق الذي يستهدف خنقها، ويتم من خلاله أيضا تحديد الأدوار الفاعلة للجميع في هذه المهمة.

في كل ما سبق لم نتحدث عن أي شأن أو برنامج في النهضة والتنمية والتغيير الداخلي، فهذه مسائل يمكن أن نتفق أو نختلف حولها، وكلا الاحتمالين طبيعي داخل المجتمع الواحد.
ما تحدثنا عنه هو ما يخص وجود سوريا، وتحرك أعدائها ضدها، والمخاطر التي تحيط بها، وتكمن فيها، وكيف أن مظاهر الخطر التي تحيط ببلدنا، وببلدان عربية عدة، تقف وراءها قوة رئيسية معادية ممثلة بالكيان الصهيوني وحلفائه، تغذي كل مظاهر الخلل، وتعزز كل مواقع الفرقة والتشتت، وتمد يدها إلى كل الأطراف الرخوة في جسدنا الوطني.
وما خلصنا إليه وأردنا أن نسلط ضوءا كثيفا عليه أن الخلاص من كل هذا، والقدرة على مواجهة كل هذه المخاطر لا يكون إلا بالثقة بالشعب السوري، الذي ضحى في آخر مراحل نضاله ضد النظام الأسدي والممتدة لثلاث عشرة سنة، ودفع ثمنا قد لا يكون مسبوقا، وهو أهل لأن يوثق به، ويكاشف بكل شيء، ويُعتمد عليه بعد الله تعالى في تحقيق النصر في كل المواجهات الممكنة والمحتملة.

إستانبول 28 / 12 / 2025

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى