
ليست وثيقة استراتيجية الأمن القومي لإدارة ترامب الثانية مجرّد تحديث بيروقراطي لأولويات السياسة الخارجية، ولا بياناً انتخابياً مغلّفاً بلغة الأمن. إنها (لمن يقرأ ما بين السطور) إعلان انتقال الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، من مرحلة الدفاع عن النفوذ إلى مرحلة الدفاع عن الهُويَّة: من صراع على الجغرافيا إلى صراع على المعنى، ومن سباق قوى عظمى إلى حرب تعريف العالم.
يلمس توماس فريدمان، وهو يقرأ الوثيقة بنبرته الليبرالية الناعمة في مقاله أخيراً، التحوّل، لكنّه لا يذهب به إلى نهايته المنطقية، فالوثيقة لا تقول صراحةً: “نحن في حرب حضارية”، لكنّها تعيد تعريف الأمن القومي بطريقة لا تترك شكّاً في طبيعة الصراع المقبل: العدو لم يعد فقط الصين وروسيا، بل الإنسان المختلف، والثقافة الأخرى، والهُويَّة التي لا تذوب. إنها محاولة لإعادة إحياء نظرية “الخطر الأخضر”، ولكن بصورة مختلفة أكثر عمقاً وخطورة.
تقليدياً، كان الأمن القومي يعني الجيوش، والحدود، والردع النووي، وموازين القوى. اليوم، في منطق ترامب (الثاني)، الأمن القومي يعني سؤالاً وجودياً: من نحن؟ ومن يهدّد أن نكفّ عن أن نكون ما نحن عليه؟ الهجرة هنا ليست ملفّاً إنسانياً ولا قضيةً اقتصاديةً، بل خطر حضاري داخلي. خطر لا يُردَع بالصواريخ ولا يُحتوى بالاتفاقات، لأنه يعمل ببطء في العمق: يغيّر الديمغرافيا، ويعيد تشكيل الذاكرة، ويُنتج أجيالاً لا تنتمي تلقائياً إلى “النموذج الأبيض المسيحي الغربي” الذي يرى نفسه معياراً كونياً.
بهذا المعنى، لسنا أمام “صدام حضارات” على طريقة هنتنغتون، فتتواجه كتل ثقافية متقابلة في ساحات واضحة. نحن أمام ما هو أخطر: حرب تعريف. من يملك حقّ تسمية الوطن؟ من يُعتبر جزءاً من “نحن”، ومن يُدفع إلى هامش “هم”؟ أيُّ ثقافة تُعرَّف باعتبارها الأصل، وأيُّ حضور يُنظر إليه تشويشاً أو تهديداً بنيوياً؟ هنا يدخل الإسلام، لا ديناً روحياً، بل هُويَّة جماعية مرئية، متنامية، عصيّة على الذوبان الكامل. لا يحتاج إلى عنف ليُعتبر خطراً، ولا إلى أيديولوجيا سياسية ليُقلق المركز. يكفي الاسم، والرمز، واللغة، والحضور العددي. ولهذا بالضبط تصبح الحرب عليه حرب وجود لا حرب سلوك: حرباً لا تتطلّب دليل إدانة، لأن “الاختلاف” نفسه هو الجريمة.
حين تفشل الإمبراطوريات في فرض سيطرتها، تلجأ إلى الهُويَّة خندقاً أخيراً. وحين يتآكل النفوذ، يتحول “نحن” إلى سلاح، و”الآخر” إلى تهديد وجودي
الشرق العربي الإسلامي، في هذه الرؤية، لا يُعامَل خصماً عسكرياً ولا حتى منافساً سياسياً، بل خزّان هجرة، ومصدر قلق رمزي، ونقيضاً ثقافياً دائماً. من هنا تُفهم وحدة السردية التي تربط بين منع الهجرة، والإسلاموفوبيا، وإعادة تعريف المواطنة، والتعامل مع فلسطين وغزّة بوصفهما عبئاً أخلاقياً يجب إسكات صوته لا سماعه.
غزّة ليست تفصيلاً خارجياً في هذه الحرب الحضارية، بل لحظة كاشفة؛ لحظة انكشاف أخلاقي كامل للغرب الذي طالما قدّم نفسه حاملاً لقيم حقوق الإنسان. ما جرى في غزّة لم يهزّ صورة إسرائيل فقط، بل ضرب في العمق ادّعاء التفوّق القيمي الغربي. ومنذ تلك اللحظة، لم يعد الصراع فقط على الأرض، بل على الرواية، وعلى من يملك الحقّ في تعريف الخير والشر.
المفارقة الكبرى (تتعمد الوثيقة إخفاءها) أن هذه الحرب الحضارية لا تُشنّ من موقع قوة، بل من موقع خوف: خوف من عالم يتغيّر، ومن جنوب عالمي يصعد، ومن فشل الحروب التقليدية، ومن تآكل الليبرالية قيمةً أخلاقيةً جامعةً، ومن انكشاف النفاق حين تُقاس حياة الإنسان بلون جواز سفره وموقعه الجغرافي.
حين تفشل الإمبراطوريات في فرض سيطرتها، تلجأ إلى الهُويَّة خندقاً أخيراً. وحين يتآكل النفوذ، يتحول “نحن” إلى سلاح، و”الآخر” إلى تهديد وجودي. هذا ما نراه اليوم بوضوح: أميركا لا تعلن حرباً حضاريةً لأنها واثقة من نفسها، بل لأنها تخشى أن تفقد مركزها الرمزي قبل أن تفقد تفوّقها المادي.
نحن أمام حرب حضارية ناعمة، طويلة النفس، تُدار بالقوانين والخطاب والإعلام والديمغرافيا، لا بالدبابات وحدها. حرب على الانتماء، لا على الحدود. وعلى العالم العربي والإسلامي أن يدرك أن موقعه في هذه المعادلة ليس هامشياً، بل في قلب تعريف “الآخر” الذي تُبنى عليه هذه الحرب.
إنها ليست حرب الغرب ضدّ الشرق، بل حرب نموذج يحتضر ضدّ عالم لم يعد يشبهه. وحين تخوض الحضارات حروبها بدافع الخوف، تكون أكثر شراسة، وأقلّ أخلاقاً، وأشد عمى.
المصدر: العربي الجديد






