هل ستندمج “قسد” في المؤسّسات السورية؟

أحمد مظهر سعدو

لا يبدو أن الموعد المحدّد مع نهاية عام 2025 لإنفاذ اتفاق 10 مارس (2025) سيكون خاتمة العقد ونهاية الاندماج لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) داخل أتون المؤسّسة العسكرية السورية، ولا كذلك في المؤسّسات المدنية. ويبدو أن الأمور (بعد اشتباكات حلب في حيَّي الشيخ مقصود والأشرفية) تؤشّر إلى احتمالات تمديد فترة تطبيق الاتفاق المذكور وإنفاذه، باعتبار أن المسألة ما زالت ضمن دائرة الاشتباك، ولم تصل بعد إلى حافّة الانفصال الكلّي أو الاندماج الكامل. إن تدخّلات الولايات المتحدة أخيراً هي التي أوقفت الاشتباكات، لكنّها أيضاً لم تُجبر “قسد” على القبول ببنود اتفاق 10 مارس (2025) أو تنفيذها على الأقلّ. وما زالت الولايات المتحدة وسياساتها في سورية تراوح في المكان بين: دعم الحكومة الجديدة، وعدم التخلّي عن “قسد”، خاصّة أنها ترى أن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ما زال موجوداً في المنطقة، وينشط بين الفينة والأخرى، وقد وصل إلى حالة متطوّرة عسكرياً عبر هجومه أخيراً على دورية أميركية في تدمر، وقُتل جرّاءه ثلاثة من الأميركيين، وما تبعه من ضربات أميركية طاولت سبعين موقعاً في الأراضي السورية، مستهدفةً بعض أماكن وجود “داعش”.
الدولة السورية الجديدة باتت تمتلك أدوات قوية لبسط سيطرتها بالقوة على كامل الجغرافيا السورية، لكنّها ما زالت مقتنعة بأنها لن تكرّر تجارب ما جرى في الساحل السوري، أو تبعات ما حدث في الجنوب، وخاصّةً في محافظة السويداء وجبل العرب، رغم الدعم التركي الملموس في مواجهة “قسد” فيما لو قرّرت خوض معركة توحيد سورية حرباً لا سلماً. وهو ما عكسته الزيارة المهمة لوزير الخارجية التركي بصحبة وزير الدفاع ورئيس الاستخبارات التركية إلى دمشق، وكان في جعبتهم مسألة الضغط على “قسد” كي تقبل في عملية الاندماج في مؤسّسات الدولة الوطنية السورية، بعيداً عن كل أدوات الخراب والحرب الكلاسيكية.
تمتلك دمشق أدوات بسط السيطرة، لكنّها تفضّل توحيد سورية بلا حرب
الدولة السورية، ومن خلال تجاربها التي تعلّمت منها، كما يظهر للعيان، تريد بحقّ الوصول إلى تفاهم حقيقي مع “قسد”، كما تريد إنفاذ عملية الاندماج وتوحيد سورية من دون حرب وبعيداً من أجوائها الصعبة. وهي تريد أن تبتعد قدر المستطاع عن أيّ حروب داخلية جديدة قد تسهم في إحداث شروخ وطنية جديدة، ولا حتى عن أيّ حروب خارجية، منعًا للدمار وحقنًا للدماء الجديدة التي يمكن أن تجري هنا أو هناك في الوطن السوري. ولسان حال السوريين حكومةً وشعباً يقول: يكفي السوريين ما جرى لهم حتى الآن من مقتلة أسدية طاولت أرواح أكثر من مليون ضحية سوري خلال 14 عاماً من عمر ثورة السوريين في الحرية والكرامة.
المشكلة أن أهل “قسد” ما زالوا يعتقدون بأن الدعم الأميركي ما برح متوفّراً لهم، وهو يأتي حسب الضرورة والحاجة، وأنهم ما زالوا من المحظيين لدى الأميركيين، وهم ما برحوا رأس حربة في مواجهة “داعش” الإرهابي، رغم دخول الدولة السورية عملياً (وبعد زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى العاصمة الأميركية واشنطن) في أنساق التحالف الدولي ضدّ التنظيم، بينما ما يزال الأميركيون يشتغلون في سياسة ترك الباب موارباً أمام “قسد”، وكذلك أمام الحكومة السورية: لا يريدون إغلاقه نهائياً كما لا يريدون فتحه على مصراعيه، وهي سياسة أميركية (كما يبدو) تشكّل أساس السياسات الأميركية في التعاطي العملي مع بؤر التوتر في العالم.
لكن هذه السياسة نفسها هي التي ستُبقي الجرح مفتوحاً، وتخلق صديداً مستمرّاً، وتجعل سياسة اللا حلّ سيّدة الموقف، وتشي باحتمالات (وتوجّهات) حروب قد لا تنتهي، ودماء لا تتوقّف. فهل يمكن لـ”قسد” والحكومة السورية أن تتوصّلا إلى حلّ عملي ميداني ينهي حالة الاحتراب ويعيد البوصلة إلى مسارات حقيقية لوحدة السوريين كلّهم بلا استثناء، بإثنياتهم وطوائفهم وأيديولوجياتهم كلّها؟ ومن ثم، هل يمكن أن تتوقّف “قسد” عن مطالباتها المتكرّرة بالمسألتَيْن الأساسيّتَيْن (بل المعضلتَيْن) وهما اللامركزية السياسية، وبقاء “قسد” كتلةً عسكرية كبرى ووازنة خارج سياقات الحكومة السورية ودينامياتها؟
المؤشّرات حتى الآن توحي بذلك وتشير إليه، بل تدفع إلى مزيد من التوتر وعدم الاستقرار. إضافة إلى أن الأتراك يؤكّدون باستمرار أنهم جاهزون للتدخّل العسكري لحسم مشكلة مليشيا موجودة شمال شرقي سورية وغير تابعة للدولة الوطنية السورية، بامتداد على الحدود التركية الجنوبية لمسافات كيلومترية طويلة جداً.
ليست إسرائيل بعيدةً من اشتغالاتها من أجل أن تبقى سورية مفكّكة وغير موحّدة، وبالضرورة ضعيفة ومتشظّية
وباعتقاد كاتب هذه السطور فإن الموافقة الأميركية الفعلية والمباشرة لم تخرج من البيت الأبيض بعد، أو من جدران البنتاغون والإدارة الأميركية، المتعلّقة بالموافقة على أيّ عملية عسكرية ضدّ “قسد”، سواء من الأتراك أو من الحكومة السورية أو من تحالفهما المشترك. والسوريون، بقضّهم وقضيضهم لا يريدون حروباً جديدة، و”القسديون” ما زالوا غير جاهزين للانخراط ضمن الدولة السورية الجديدة إلا وفق شروطهم التعجيزية المعروفة، والأميركيون ما زالوا غير واضحين فعلياً في موقفهم من ذلك، وينتظر الأتراك الضوء الأخضر الأميركي ليبدؤوا حرباً تنهي ظاهرة “قسد”. وحكومة دمشق تعلّمت فعلياً من تجاربها، وهي لا تريد توحيداً لسورية على حساب دماء السوريين، أيّاً كانت إثنياتهم أو طوائفهم.
والعقدة ما زالت صعبة الحلّ، والظنّ أن حلّها بات قاب قوسين أو أدنى من الإنجاز؛ فأمام فكفكة هذه العقدة الكثير الكثير. وليست إسرائيل، بالطبع، بعيدة عن اشتغالاتها من أجل أن تبقى سورية مفكّكة وغير موحّدة، وبالضرورة ضعيفة ومتشظّية، ما يؤدّي إلى هيمنة إسرائيلية طويلة المدى، وقضم مستمرّ للأراضي السورية يتواصل ويتعدّد، واعتداءات لا تتوقّف على الأراضي والمواطنين السوريين ضمن سياقات عربية متردّدة وضعيفة وغير قادرة على نجدة السوريين، وهي التي لم تستطع نجدة الفلسطينيين قبل ذلك، وتساوقاً معه.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى