حي الأكراد الدمشقي

فارس الذهبي

حيّ الأكراد في دمشق ليس فكرةً إثنية أو فضاءً مغلقًا وُضع على الورق ثم نُقل إلى العمران مثل غيره من أحياء دمشق القديمة، بل كان ولا يزال نتيجةَ تراكُمٍ سكنيٍّ وعمرانيٍّ على سفح قاسيون، حيث تتقاطع الجغرافيا مع السياسة ومع اقتصاد الوقف. الاسمُ الشائع اليوم «ركن الدين» لا يلغي الاسم الأقدم «محلة الأكراد»، بل يكشف مرحلتين من تاريخ المكان: مرحلة تشكّل جماعةٍ سكانية تُعرَف في الوعي المحلي باسمها، ثم مرحلة تثبيت العمران عبر معلمٍ أيّوبي حمل اسم منشئه، فغلب على الحي كله. توثيق مديرية أوقاف دمشق يضع المدرسة الركنية البرّانية في موضعٍ محدّد داخل الحي، عند ساحة شمدين آغا وعلى ضفة نهر يزيد، ويذكر صراحةً أن المكان صار يُعرف بحي ركن الدين، وأن المدرسة بُنيت في حي الأكراد بالصالحية في سفح جبل قاسيون.
لا تظهر في المصادر الدمشقية القديمة صيغة واضحة لمؤسس الحي بقرارٍ واحد، بل تظهر آلية أخرى للتكوّن: انتقال جماعات، ثم سكنٌ على الأطراف، ثم مؤسسات تعليم وعبادة وتُرَب ومدافن، ثم شبكة أوقاف تضبط الخدمات والوظائف وتخلق استقرارًا طويل الأمد. في هذا السياق تبرز المدرسة الركنية البرّانية بوصفها علامةً تأسيسية، لا للحي كله بالمعنى الإداري، بل لمرحلة ترسيخ العمران باسمه. أوقاف دمشق تذكر أن الأمير ركن الدين منكورس الفلكي بدأ إنشاء المدرسة سنة 1224م، وأتمّها سنة 1227م مدرسةً للأحناف، وأنه دُفن في تربته إلى جانبها سنة 1234م، وتضيف عبارةً واضحة: «وإليه تُنسب تسمية الحي».
تنظيم المكان في دمشق الوسيطة كان يرتكز إلى الوقف: شبكة موارد تُخصَّص للصيانة والإنارة ورواتب القائمين ووظائف التعليم والقراءة، بما يجعل المعلم مركزًا اجتماعيًا واقتصاديًا، لا مجرد بناء.
لكن قبل الوصول إلى ركن الدين منكورس، ينبغي ربط الحي بتاريخ الوجود الكردي في دمشق على نحوٍ أدقّ من الرواية الشائعة. هل جاء أكراد الحي فعلًا مع سلطان مصر والشام صلاح الدين الأيوبي؟ الجواب الأقرب إلى الوثائق: جزءٌ من الحضور الكردي ارتبط فعلًا بزمن الزنكيين ثم الأيوبيين وبالحروب الصليبية، لكن القول إنهم لم يكونوا في دمشق قبل صلاح الدين، أو أن الحي تكوّن لحظة دخوله، قولٌ مبسّط أكثر مما تسمح به الشواهد. (الموسوعة العربية) تربط بدء ظهور الأكراد بدمشق بسياق الحروب الصليبية، وتذكر اسمًا محددًا سابقًا على صلاح الدين زمنًا ودلالةً: الأمير «مجاهد الدين بزّان بن مامين» الذي قاتل في الشام، وتوفي بدمشق سنة 1160م، ودُفن في المدرسة المجاهدية البرّانية داخل المدينة قرب باب الفراديس. وهذا يعني وجودًا كرديًّا في دمشق قبل أن يصبح صلاح الدين حاكمًا للشام ومصر.
المصدر نفسه يضيف أن عدد الأكراد ازداد في عصر نور الدين محمود بن زنكي سنة 1173م، مع التحاق شخصيات كردية بارزة بخدمته، منهم أسد الدين شيركوه ونجم الدين أيوب والد صلاح الدين. ثم بعد وفاة نور الدين، وفي عهد الناصر صلاح الدين، التحق به عدد كبير من الأكراد، وتذكر الموسوعة أن المدينة ضاقت بهم، فاختاروا الإقامة في سفوح قاسيون، إلى الشرق من المقادسة، في نطاق الصالحية وسفوحها. هنا تتضح العلاقة الحقيقية بصلاح الدين: ليس بوصفه أول من أدخل الأكراد إلى دمشق، بل بوصفه أسّس لحظة توسّعٍ سكانيٍّ وعسكريٍّ–سياسيٍّ جعل الاستقرار على السفوح خيارًا واسع الانتشار، ومن هذا التوسع خرجت نواة «محلة الأكراد» على السفح.
بهذه الدقّة يمكن إعادة صياغة الرواية الشعبية دون نفيٍ اعتباطي: نعم، ارتبط تكاثف الاستيطان الكردي على سفح قاسيون زمنًا بمناخ الزنكيين والأيوبيين، وبالذات مع توسّع نفوذ صلاح الدين وما استتبعه من تدفقات بشرية، لكن الشواهد تشير أيضًا إلى وجودٍ كردي سابق في دمشق نفسها، وإلى أن الحي بوصفه «محلة» تبلور تدريجيًا، ثم ترسّخ عمرانيًا بأوقاف ومعالم أيوبية لاحقة.
يمكن الاستناد إلى ذكره في نصوصٍ تخطيطية دمشقية تُسمّي المكان باسمه كما كان يُتداول. ابن طولون الدمشقي (ت 953هـ) في «القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية» يذكر «حي الأكراد» ضمن وصفه لمعالم سفح قاسيون، ويضع قرية الميطور بسفح قاسيون تحت حي الأكراد، ثم يحدّد موضعها اليوم بأنه أسفل المدرسة الركنية التي في حي الأكراد. هذا النوع من التحديد لا يترك مجالًا للشك في أن الاسم كان متداولًا كاسم محلةٍ معروفة في القرن العاشر الهجري، وأن المدرسة الركنية كانت علامةً مرجعية في جغرافيا الحي.
من هنا يصبح السؤال: من نظّمه؟ سؤالًا عن آليات التنظيم لا عن شخصٍ واحد. تنظيم المكان في دمشق الوسيطة كان يرتكز إلى الوقف: شبكة موارد تُخصَّص للصيانة والإنارة ورواتب القائمين ووظائف التعليم والقراءة، بما يجعل المعلم مركزًا اجتماعيًا واقتصاديًا، لا مجرد بناء. توثيق أوقاف دمشق يحفظ نصًا وقفيًا على قبة التربة، ويتحدث عن أوقاف محددة تتضمن دورًا، وحوانيت، وجنينة، وبساتين، خُصّصت لصالح التربة من زيت وشمع وحُصُر ورواتب قيّمٍ ومقرئين، مع تشديدٍ على عدم التبديل. بهذا المعنى، الوقف هو المُشغِّل الإداري الذي يخلق انتظامًا طويل الأمد حول المعلم، ويُسهم في استقرار المحلة وتماسكها.
وتُكمِل «موسوعة الآثار في سورية» صورة التنظيم التاريخي من زاوية أخرى؛ فهي لا تكتفي بذكر المدرسة الركنية ومنشئها، بل تُعدِّد آثارًا أخرى ومدارس وتُرَبًا في الحي وحوله، وتربط ذلك بطبقات زمنية أيوبية ثم لاحقة، وتشير إلى مدافن ومقامات وأسماء أعلام دُفنوا في قاسيون ضمن نطاق ركن الدين. هذا التراكم في المعالم يوضح كيف تتحول السفوح من هامشٍ عمراني إلى فضاءٍ اجتماعي منتج للرمزية والذاكرة والوظائف.
خلاصة تجربة حي الأكراد في دمشق ليست «قصة أقلية» في هامش مدينة، بل نموذجٌ سوريٌّ دمشقيٌّ عن كيفية تحوّل موجات السكن إلى نسيجٍ حضري واحد، ودخولهم في زمن التحولات الكبرى، ثم استقرارهم على السفوح، ثم اندماجهم الطويل عبر العمل والوقف والمؤسسات والتعليم.
في قلب التحول الاسمي من «حي الأكراد» إلى «ركن الدين» تقف المدرسة الركنية البرّانية بوصفها معلمًا أيّوبيًا مُسمّى باسم صاحبه. أوقاف دمشق تقدم بطاقة هوية شبه كاملة: فالمنشئ ركن الدين بن قدامة، والتاريخ (621–625هـ)، أما الوظيفة فهي مقر مدرسة للأحناف، ثم دُفن فيها سنة 631هـ. هنا ظهرت صلة الاسم بالحي. كما تذكر أنها سُمِّيت «البرّانية» تمييزًا لها عن مدرسة ركنية «جوانية» داخل الأسوار للشافعية، وهو تفصيل مهم لأنه يضع المعلم ضمن سياسة عمرانية تعليمية أوسع في دمشق الأيوبية بين داخل السور وخارجه.
يبقى حي الأكراد، إذًا، مثالًا على تشكّل حيٍّ عبر ثلاث طبقات متراكبة: الأولى طبقة سكانية مرتبطة بالحروب الصليبية وبالزنكيين والأيوبيين، والثانية طبقة جغرافية فرضتها السفوح ونهر يزيد والامتداد خارج الأسوار، والثالثة طبقة مؤسساتية وقفية–تعليمية رسّخت الاسم والمكان. ومع أن الدراسات الأكاديمية الحديثة عن الحي في العهد العثماني والانتداب تتجه إلى تفكيك فكرة «الحي بوصفه كتلة إثنية صلبة»، وتقرأه كفضاء اندماجٍ وتحوّل في أنماط الهوية داخل المدينة.
خلاصة تجربة حي الأكراد في دمشق ليست «قصة أقلية» في هامش مدينة، بل نموذجٌ سوريٌّ دمشقيٌّ عن كيفية تحوّل موجات السكن إلى نسيجٍ حضري واحد، ودخولهم في زمن التحولات الكبرى، ثم استقرارهم على السفوح، ثم اندماجهم الطويل عبر العمل والوقف والمؤسسات والتعليم. فالمصادر تشير إلى ازدياد الوجود الكردي في دمشق في العصر الزنكي، ثم اتساعه في العهد الأيوبي، مع اختيار كثيرين سفوح قاسيون ضمن نطاق الصالحية كمكان للسكن أيضًا، قبل أن يترسخ المكان بمعالم وأوقاف حملت لاحقًا اسم «ركن الدين».
أمّا دور الأكراد في تاريخ دمشق وسوريا فيُقرأ في سجلّ الدولة والمجتمع معًا؛ إذ إن دمشق في العهد الأيوبي حُكمت تحت سلطة صلاح الدين وخلفائه، وهي دولة أسستها أسرة ذات أصول كردية كان حكامها يصرّحون بأنهم ملوك العرب، وسلاطين الشام ومصر. وخلال هذه المرحلة ازدهرت دمشق كمركزٍ ديني وتعليمي وتجاري، وتكاثرت المدارس والقباب الجنائزية التي أُسنِدت بأوقافٍ ثابتة لتأمين استمرارها. في هذه الوقائع يظهر «التعايش» لا كشعارٍ أخلاقي فحسب، بل كواقعٍ تاريخي في مدينةٍ تتوسع، وتستقبل، وتُعيد ترتيب مواردها ومعارفها وسكانها، بحيث تصبح الإسهامات الكردية جزءًا من بناء دمشق وسوريا نفسها، تمامًا كما أصبحت دمشق إطارًا جامعًا لهوياتٍ متعددة صاغتها الحياة اليومية والمؤسسات المشتركة عبر قرون.
المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى