الكونغو… حرب لا تنتهي وجروح لا تندمل

مدى الفاتح

شاهدتُ بتأثرٍ قبل أيام فيلم “وحيد في عالم غريب”، الذي تبدأ أحداثه في أجواء حرب الكونغو الأهلية (الثانية) التي اندلعت أواخر التسعينيات. وكان مصدر التأثر أنه ذكّرني بأحداث حرب السودان، بما فيها من فظاعاتٍ وانتهاكاتٍ وتهجير. الفيلم، الذي يروي الأحداث انطلاقاً من قصّة عائلة كانت تعيش حياةً ليست مرفّهة تماماً لكنّها مستقرّة، يبرع في تصوير انقلاب الحياة بين ليلة وضحاها في كنشاسا: من الأمن إلى أجواء القتل العشوائي والتصفيات العرقية. وكان ذلك يجعلني أتذكّر ما حدث في الخرطوم، التي كانت حتى تاريخ 15 إبريل/ نيسان 2023 مدينةً آمنةً وحيّةً ومزدحمةً، قبل أن تتحوّل لاحقاً إلى واحدة من أخطر مدن العالم، وإلى مدينة صار الانتقال فيها من ضفّتها اليمنى إلى ضفّتها اليسرى بمثابة مغامرة.
أبدع فيلم “”وحيد في عالم غريب” في تصوير عبث الحروب، وكيف تمتدّ إلى المدنيين الذين سيجدون أنفسهم معرّضين للقتل والاغتصاب والتعذيب من دون ذنب
الحرب أمرٌ فظيع؛ هذه حقيقة يعلمها الجميع، لكن ثمّة فارقاً بين ترديد العبارة وأنت تشاهد الدمار في شاشات التلفاز، وبين التفكير فيها وقد كنتَ شاهداً على امتزاج صرخات الأبرياء بمشاهد الجثث على الأرض وأصوات الرصاص. وممّا يقنع به المرءُ نفسه وهو يشاهد أخبار الحروب أنها ستبقى بعيدةً منه، وأنه سيبقى دائماً في مأمن من الخطر. هذا شعورٌ خادعٌ وشائع، يشبه ذلك الذي يتسرّب إلينا حين نسمع ما يعانيه الآخرون، فنحاول إقناع أنفسنا بأن ذلك النوع من المعاناة (والألم) لن يصيبنا.
وما كنّا نفكّر فيه ونحن نرى أسراب النازحين السودانيين وهم يتركون بيوتهم ويغادرون مناطقهم مشياً على الأقدام، بلا زاد ولا راحلة، هو أننا شاهدنا هذه المشاهد من قبل في الحروب الأفريقية، وفي سورية وفلسطين، وفي كل مكانٍ حدث فيه انفراطٌ لعقد الاستقرار، لكنّنا لم نتوقّع أن نمرّ نحنُ وأهلنا بهذه التجربة.
أبدع الفيلم في تصوير عبث الحروب، وكيف أنها تمتدّ لا محالة إلى المدنيين الذين سيجدون أنفسهم معرّضين للقتل والاغتصاب والتعذيب من دون ذنب، كما لم ينسَ تصوير التجنيد القسري للأطفال، وكيف تُزرع فيهم الوحشية واستسهال القتل. لم يركّز الفيلم في شرح جذور تلك الحرب وارتباطاتها بالمجازر الإثنية في رواندا المجاورة، بل ركّز في قصة الطفل “لوندري”، الذي عرض من خلاله الأهوال التي عاشتها الكونغو خلال تلك الفترة. وسيقول “لوندري” العبارة التي يقولها كل من يعايش الحروب: إنه لم يكن يدرك (كان يتذمّر من أشياء بسيطة مثل قسوة معلّم المدرسة وصرامة والده معه) أنه كان يمتلك كل ما يحتاج إليه، مقارنةً بمرحلةٍ لاحقة لن يمتلك فيها شيئاً وسيفقد فيها أعزّ أحبّائه.
الأزمة المستمرّة بأوجه متعدّدة في الكونغو هي إحدى مظاهر مشكلات دول ما بعد الاستعمار؛ فحين نقترب منها ندرك أننا لا نستطيع فهمها بمعزلٍ، ليس عن دور القبائل المشتركة مع رواندا فقط، وإنما أيضاً بمعزل عن دور أوغندا، البلد المجاور الآخر الذي لم يكن له أن يقف مكتوف الأيدي من دون تدخلٍ يخدم مصلحته. ومشكلة دول ما بعد الاستعمار تعني أن العشوائية التي رُسمت بها الحدود السياسية خلقت تقاطعات قَبَلية معقّدة بين الدول، ما جعل من الطبيعي أن تدخل مجموعاتٌ في صراعات دولةٍ مجاورة؛ فهذه المجموعات لا تعتبر أنها تدخّلت في حيّز أجنبي غريب، بل ترى أن استنفارها طبيعي، وأن نصرتها لأبناء عمومتها أمرٌ عادي لا يمكن أن تحول دونه الحدود.
والأمر متشابه في صراعات أفريقية كثيرة، ففي السودان، مثلاً، يمكن أن يُفسّر الإغراء بالمال استجلاباً لمرتزقة من كولومبيا، لكن أبناء قبائل الجنجويد، الممتدّة من غرب السودان إلى أقصى العمق الأفريقي، لا يحتاجون المال وحده دافعاً للمشاركة في القتال؛ فيكفيهم حلم السيطرة على البلاد ونهب ثرواتها، فضلاً عن أن ما قد يكون مقنعاً لهم أكثر من المال هو أن يكون لهم دور في وصول أحد أبنائهم إلى الحكم، بما يحمله ذلك للجميع من سلطةٍ وثروة. وحتى يومنا هذا، مع تجدد الاشتباكات في الكونغو، يدرك العالم أن تحقيق السلام لن يكتمل من دون إشراك رواندا، وهي المقاربة التي تبنّاها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ودعته إلى عقد اجتماع جمع فيه ممثّلي البلدَيْن في بداية هذا الشهر في واشنطن.
تقرأ أزمة الكونغو بوصفها من أمراض “دول ما بعد الاستعمار”
وترامب، الذي يأمل أن تنجح اتفاقات واشنطن في إنهاء واحدة من أطول حروب العالم، علّق بطريقته الهزلية على اللقاء قائلًا: “لقد أمضوا كثيراً من الوقت في قتال بعضهم بعضاً، والآن سيمضون وقتاً طويلاً في عناق بعضهم”. لكن المشهد لم يكن بهذه الحميمية التي كان ترامب يقنع نفسه بها؛ ليس لأن الرئيسَيْن الكونغولي والرواندي لم يتصافحا وتجنّبا التقاء الأعين، بل لأن الفوضى كانت تتزايد في المنطقة في الوقت نفسه، وكانت القوات المعروفة باسم “إم 23” (المدعومة بشكل واضح من رواندا) تواصل عملياتَها وتقدّمَها.
ولم يقدّم الاجتماع الأخير جديداً سوى تأكيد ما كان قد اتُّفق عليه في يونيو/ حزيران الماضي: ضرورة وقف رواندا دعمها قوة إم 23، مع التعهّد بانسحابها من الأراضي الكونغولية، في مقابل أن تفكّ الكونغو ارتباطها بـ”القوى الديمقراطية لتحرير رواندا”، المكوّنة من إثنية الهوتو، المنافسة لإثنية التوتسي التي ينتمي إليها الرئيس الرواندي.
ومقاربة الرئيس ترامب لحرب الكونغو تشبه مقارباته المماثلة لصراعات العالم؛ فما يهمه بالدرجة الأولى هو الضغط على الطرفَيْن من أجل فتح خطوط النقل وخلق بيئة آمنة للمستثمرين الأميركيين، خاصّةً في مجال المعادن التي يتلهّف للاستحواذ عليها.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى