
فترة أعيادٍ قصيرة يعيشها لبنان للاستهلاك الموسمي فوق التدمير الذي أفقر البلد. وبعد عام من الأحداث كان فيه موضوع حصر سلاح حزب الله القضية الأساسية التي يجري تداولها على نطاق واسع، طغى ذلك على كل عناصر الضعف الأخرى التي يعاني منها الكيان سياسياً ومالياً واجتماعياً. والشكل الذي تتخذه الأعياد ليتناسب مع الأوضاع يبدو كأنّه فوضى لكسر الواجهة: موضة نهاية العام، وطريقة للتظاهر تدفع الانتباه نحو اجتماع لبناني آخر مختلف، وإلى أملٍ بتحسينات كثيرة تطاول حياة اللبنانيين في العام المقبل.
صورة عام 2026، في ما يُرى وما لا يُرى، مغلقة بالاستنتاجات نفسها: بلد يعيش أوضاعاً غامضةً يستحيل معها التعويل على دعمٍ يحقّق تقدّماً في ملفّات كاملة ما زالت عالقةً: عجز في العمل السياسي، نقص في الموارد، محاصصة طائفية ومذهبية، ورعاية إقليمية ودولية مركّبة، مشروطة جميعها بعملية نزع سلاح حزب الله لتأمين تكاليف إعادة الإعمار لعشرات القرى المُهدَّمة: نحو 53 ألف وحدة سكنية، ومثلها متضرّرة في القرى الحدودية الجنوبية، فضلاً عن غير المُعلَن من الخسائر البشرية: نحو 4068 شهيداً. لقد تراجع تهديد الحرب، ومع ذلك فإن هدف المحادثات لا يزال غامضاً.
يعني السلام مع إسرائيل الذي يلوح في الأفق خضوع لبنان لمزيد من الإملاءات السياسية، وفصله عن مسار دعم القضية الفلسطينية
وبالانتظار، تعيش غالبية اللبنانيين فترة أعيادٍ مزدهرة يضعون فيها الضغوط جانباً من دون التفكير في الأساسيات المقلقة، ومن دون مصالحة مع الذات ومع التحدّيات التي تزعزع استقرار البلد. وبقدر ما تعكس الأجواء السائدة تمنّياتٍ وأملاً في مستقبل أفضل للبنان والمنطقة، ترافقها المشكلات العالقة إلى عام 2026: اقتصاد سيئ، وتهديدات إسرائيلية بحرب موسّعة تضرب ما تبقّى من بنية الدولة، وإدارة سياسية غير قادرة على نزع السلاح غير الشرعي وتوجيه الاقتصاد والمجتمع.
وما لا يُرى هو مآل المفاوضات مع الاحتلال ومستقبل المنطقة منزوعة السلاح، وطبيعة الهجرة الشيعية الواسعة من مناطق التماس الحربي، والتنافر الوطني وصعوبات الاندماج في ظلّ تدهور الخطاب السياسي على أنقاض مستوى معيشي متدهور في تقديم الخدمات الأساسية، وعنف الكراهية في الخطاب الديني والإعلامي في الحدود بين المركزية واللامركزية، وفساد المؤسّسات، مع استثناء نجاحاتٍ تحقّق عائداً مهمّاً في مسألتي الأمن واليقظة في تغطية المواجهة ضدّ آفة المخدرات.
وما لا يُرى (غير موضوع السلاح) هو اختبار قدرة الدولة على استعادة دورها كاملاً؛ ففي التجربة اللبنانية لم يكن السلاح مجرّد أداة عسكرية، بل أداة سياسية لضبط التوازنات والتحكّم بمسار الدولة. ويواجه لبنان خطراً كبيراً في العجز السياسي للقيادات والنُّخب والمؤسّسات الإدارية المستسلمة للتخلّي عن موضوع الإصلاح، فيما يتجاوز فترة الانبهار بما يُرى من اتكال اللبنانيين على مظاهر الحياة في المناسبات، وما يظهر من شيء مختلف في ظروف أخرى، وطموحهم إلى ما ينقذهم في النظر إلى المخاطر المقبلة.
ومن الصعب التنبؤ والإدارة في ظلّ ضربة عسكرية كبيرة لا يمكن قياسها وتزيد تعقيدات الوضع القائم، في وقت تشير تصريحات المسؤولين إلى ما هو “ممكن في تجاوز مسألة الحرب” مع استكمال الاجتماعات التفاوضية للجنة “الميكانيزم”، والدفع في اتجاه تعاون اقتصادي بين لبنان وإسرائيل. وهو ما يشير إلى أن أثماناً ستترتّب على لبنان وسيتعيّن عليه دفعها من دون معرفة إن كانت الأمور ستظلّ على ما هي عليه من دون أيّ تنويع. فمن دون خطّة بديلة واضحة، غير التكيّف في حالة من الركود، يصعب العثور على غير المتشائمين من مخاطر أوضاع تستحقّ المراقبة في عام 2026، فيما لم تنجح الوساطات العربية والدولية في إقناع حزب الله بإعادة النظر في موقفه دفاعاً عن سلاحه، وتسهيل استكمال حصرية السلاح بوصفها الممر الإلزامي لبسط سلطة الدولة تطبيقاً لقرار مجلس الأمن 1701.
موقف حزب الله يؤدّي إلى حشر الدولة، ولا يأخذ بتحذيرات عدم جدوى إيداع السلاح بعهدة طهران لاستخدامه (بوصفها صاحبة الحقّ فيه) في إعادة الاعتبار لمفاوضاتها مع واشنطن، في ظلّ الضغوط عليها وعزلتها التي تدفعها للتشدّد بأوراقها المتبقيّة في لبنان، بما يعيق ملاقاة لبنان للدعم الخارجي للجيش، ويصطدم بالإعلان الواضح الذي صدر من رئيس الحكومة نوّاف سلام بالتزام خطّة حصر السلاح في لبنان كلّه.
هيمنت قصة نزع السلاح عام 2025، ولا شيء يوحي أنها ستنتهي في 2026. وهناك شيء غير مدروس في تصريحات قادة الحزب بشأن نقل السلاح سرّاً إلى شمال الليطاني، والتصرّف بمصير اللبنانيين والمجتمع، والتصديق بأن ذلك سيساهم في استقرار البلاد. وفيما يشتغل الحزب بالدفاع عن سلاحه ومواصلة تهديداته، يثير السخرية الجدلُ الذي يطول في نسيج تحليلات وتفسيرات وحجج تتماشى مع خطاب فئوي ومذهبي في كل حدث أمني وسياسي، في وقت ما زالت خروقات إسرائيل لوقف إطلاق النار متواصلة.
ومن غير المتوقّع تراجع الضغوط على لبنان، حتى لو حصل اختراق أميركي حقيقي لتجنيب لبنان تصعيداً إضافياً واسعاً، عبر تبنّي المفاوضات في وضع جيوسياسي دولي يتغيّر جذرياً في السعي لخفض الصراعات والتوتّرات والحروب في أوكرانيا وغزّة. لكن السلام مع إسرائيل الذي يلوح في الأفق يعني خضوع لبنان لمزيد من الإملاءات السياسية، وفصله عن مسار دعم القضية الفلسطينية، وصرفه عن النقاش العام المعادي للاحتلال والعنصرية. والحياد في أفضل الأحوال وهم، وفي أسوأ الأحوال إملاء سياسي. لذلك يبقى الغرض من المفاوضات غير واضح في خلق منطقة عازلة بعناوين اقتصادية تفتح الطريق إلى التطبيع، بانتظار الصفقة الكبرى التي يعمل فيها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في توسيع الاتفاقيات الإبراهيمية.
بعد عام من حرب خريف 2024، وفي ظلّ عامٍ من الحرب الإسرائيلية المتواصلة من جانب واحد، ما زال لبنان الرسمي يتراجع خطواتٍ إلى الوراء. ويبدو البلد أكثر من أيّ وقت مضى تحت التحكم الأميركي، وكل شيء يبدو مشروطاً بتوقيع معاهدة سلام مع العدو، وربط لبنان فرعاً من المسألة الأساس في سورية. فالسياسة معلّقة حتى إشعار آخر، وتنتظر فرض السلوك من الخارج: لا معارضة سياسية موحّدة، وكثير من تلاوين الاجتماع السياسي، والتهكّم القانوني والدستوري، وحساسيات انتخابية على أبواب ربيع 2026 تشغل المساحة الشاغرة وتعيد إنتاج المنظومة نفسها.
من دون خطة بديلة واضحة غير التكيّف مع الركود، يصعب العثور على غير المتشائمين من مخاطر أوضاع 2026
ستبقى الآمال معلّقةً على حلفاء لبنان وأصدقائه، وعلى تصميم رئيس الجمهورية جوزاف عون، الذي ستستمرّ ولايته حتى عام 2031، وعلى كبح جماح حزب الله وتعزيز ثقة الدول العربية والخليجية. ويأمل اللبنانيون في أن تأتي تغييرات حقيقية وألا تُفوّت فرصة الانتقال إلى الدولة، إلا إذا أثبتت قوى الجمود السياسي أنها أقوى. فقد يجلب العام الجديد مزيد من الحرب والركود الاقتصادي. ولعقود كان الاقتصاد اللبناني يشبه مخطّط “بونزي” (نظام بيع هرمي، وشكل من أشكال الاحتيال يقوم على استدراج المستثمرين من خلال دفع أرباح للمستثمرين السابقين باستخدام أموال من المستثمرين الأحدث) تديره الدولة، ويحاول السياسيون والمصرفيون عرقلة أيَّ محاولة للإصلاح بصورة متكرّرة، وآخرها خطّة رئيس الحكومة الجريئة للتموضع المالي في قانون توزيع الخسائر المقدرة بـ80 مليار دولار، تمهيداً لإعادة هيكلة البنوك، والحصول على مساعدة صندوق النقد الدولي والاستثمارات. وكل ما هو طموح ومطلوب مسارٌ وطني يعترف بالحقيقة، ويحدّد المسؤوليات بوضوح (لا نوعاً من العفو عمّا مضى؛ في 1991) لمواجهة واقع العالم والتخطيط للمستقبل.
المصدر: العربي الجديد






