حان وقت الوعي في سورية

عبد الباسط سيدا

سيكون من المفيد، بعد مرور أكثر من عام في سورية على هروب بشّار الأسد ومجيء إدارة الرئيس أحمد الشرع، أن نتأمّل في ما حدث؛ فذلك سيمكّننا من استشراف ماهية وملامح ما هو مطلوب للتعامل مع الأوضاع المُستجِدّة، والتحدّيات المُنتظَرة، على المستوى السوري الداخلي، وعلى المستويَيْن الإقليمي والدولي، فما حدث لم يكن له أن يتم لولا تحمّل السوريين أعباء التضحيات الكبرى والآلام الصعبة أكثر من 14 عاماً، ولولا صبرهم وإصرارهم على التخلّص من استبداد سلطة آل الأسد وفسادها، وعدم قبولهم محاولات إعادة تدويرها وتسويقها من رعاتها وداعميها بمختلف الصور. فهذا الثبات الذي يتعذّر على أيّ توصيف من جانب الشعب السوري كان من بين العوامل الأساسية التي أقنعت أصحاب القرار في تحديد مستقبل التوجّهات والاستراتيجيات الإقليمية والدولية بضرورة تغيير الاستراتيجيات وقواعد اللعبة.
حرص أميركي على ضبط العلاقة بين مركز دمشق والأطراف لمنع عنف جديد
وما إن اتُّخذ القرار بإسقاط سلطة آل الأسد، حتى وجدنا تسارعاً غير عادي لمجرى الأحداث، ذكّرنا بما حدث في العراق قبل أكثر من عقدَيْن، مع فارق أساس: أن الفاعل المباشر الحاسم في العراق كان أميركياً؛ بينما كان محلّياً داخلياً في الحالة السورية، وبطبيعة الحال لم يكن لهذا الأمر أن يتم لولا التوافق الدولي والإقليمي بإشراف أميركي. وما حدث (ويحدث)، منذ تخلّص السوريين من السلطة البائدة، يؤكّد استمرارية الإدارة الأميركية في دعم السلطة السورية الجديدة ضمن إطار استراتيجيتها الخاصّة بمنطقة الشرق الأوسط، وهي جزء من استراتيجيتها العامّة الكونية التي أعلنها البيت الأبيض في 5 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، فسورية وفق هذه الاستراتيجية ستكون مركزاً لتقاطع المصالح الاستثمارية بين القوى الإقليمية والدولية. وحتى يتحقّق هذا، لا بدّ من استقرارها الذي يُعدُّ ركيزةَ استقرار المنطقة. ولعلّ هذا الأمر هو الذي يفسّر الدعم الأميركي الدبلوماسي والإعلامي لإدارة الشرع؛ وهو الدعم الذي لم يُقرَن بعد بدعم عسكري أو اقتصادي وازن وملحوظ، مع أهمية إلغاء عقوبات “قانون قيصر”. وما يُستشفّ من تصريحات المسؤولين الأميركيين وتحرّكاتهم وجود حرص أميركي على ضبط العلاقات بين مركز دمشق ومناطق الأطراف (اللاذقية، السويداء، مناطق شمال شرق سورية) بغية منع اندلاع أعمال عنف جديدة.
وفي هذا السياق، سيكون من المهم والضروري التمييز بين الاستقرار بمعناه الأمني الوظيفي والاستقرار المجتمعي، فالاستقرار الأمني الذي من الواضح أنه هو المقصود في استراتيجية ترامب للأمن القومي، وهي التي نصّت من دون أيّ لبس على أنها غير معنية بشكل ونوعية أنظمة الحكم وكيفية تعاملها مع مواطنيها، وإنّما ما يهمّها في المقام الأول نجاح تلك الأنظمة في ضبط الأوضاع الأمنية في الداخل، وعدم التسبّب في أيّ مشكلات للجيران. ولكن من الواضح أن الجانب الأمني لا يمكنه وحده معالجة الأوضاع الصعبة التي يعيشها السوريون راهناً في مرحلة انتقالية بالغة التعقيد؛ هذا رغم أهمية ضبط الأمن بصورة عامة للمحافظة على سلامة المواطنين، جماعات وأفراداً.
فإلى جانب الضبط الأمني، يحتاج السوريون إلى الاستقرار المجتمعي الذي كان لغيابه الدور الكبير في محنتهم أكثر من نصف قرن خلال حكم سلطة آل الأسد. ومن دون هذا الاستقرار، لن تتوفّر الأسس المطلوبة لتنمية مُستدامة، ولن تُقطع الطريقُ على الانفجارات أو التفجيرات المجتمعية، وستبقى الأبواب مفتوحةً أمام القوى المتربّصة، وهي القوى التي تحاول استغلال الأوضاع الداخلية لصالح مشاريعها الإقليمية التي تتخذ من سورية ساحةً جغرافيةً للمرور، وميداناً لتثبيت نقاط الإسناد.
لقد كُتب وقيل كثيرٌ في تأييد السلطة السورية الجديدة ونقدها. وتراوحت مواقف السوريين بين الآمال الرومانسية والتبشيرات الفردوسية والشطحات الشعبوية، وبين الهواجس والتوجّسات السوداوية المُغرِقة في التشاؤم. وعبّر السوريون عن فرحهم الغامر المشروع بسقوط سلطة آل الأسد؛ كما عبّروا عن سعادتهم وهواجسهم ومشاعرهم بمختلف الأشكال، من خلال احتفالات الذكرى الأولى لتحرّرهم من حكم بشّار وعقده، وأحقاده المَرضية. وبناءً على ما يمكن استخلاصه من ذلك كلّه، باتت خريطة الطريق التي تطمئن السوريين واضحة المعالم. وهي خريطة تتضمّن جملةَ بنودٍ ملموسةٍ محدّدةٍ لا بدّ من أخذها بالاعتبار، والعمل في بلورتها وتطبيقها على أرض الواقع، وعدم الاكتفاء بالوعود التسويفية التي تهدّئ المشاعر وترطّب الخواطر، لكنّها غير كافية لإقناع العقول وتلبية الاحتياجات، ما لم تكن مقرونةً بالأفعال التطبيقية.
ليس في مقدور أي فريق سوري أن يتعامل بمفرده مع التحدّيات الكبرى مهما امتلك من مؤهلات ودعم خارجي
يجمع السوريون اليوم على أهمية وضرورة الوحدة الترابية والسكّانية ضمن إطار دولة تمثّل الجميع: دولة على مسافة واحدة من جميع مواطنيها من دون أي تمييز. دولة تحترم شعبها بمكوّناته المجتمعية كلّها، وتطمئن الجميع بعقود مكتوبة وإجراءات وممارسات تعزّز الثقة، ولا تتجاوز حدود القوانين المُتَّفَق عليها بموجب القواعد الديمقراطية المعروفة. وهذا التوجّه هو الركن الأساس الذي يسهّل مناقشة المسائل الأخرى التفصيلية بعيداً من الحرج والتشكيك والأحكام المسبقة.
ومن ناحية أخرى، هناك اتفاق عام حول ضرورة توفير الأمن والأمان لسائر السوريين. وهناك انتظار ضاغط لتحرّك العجلة الاقتصادية، الأمر الذي من شأنه ضمان فرص العمل لمئات الآلاف من الطاقات السورية الشابّة الخبيرة المُستعدَّة للعمل، والقادرة على الإسهام في بناء وطنها، وتأمين أبسط مستلزمات الحياة الكريمة لأُسَرها. الأمر الذي سيمهّد الطريق أمام كثير من الإمكانات، منها عودة اللاجئين والنازحين السوريين إلى مساكنهم في مدنهم وقراهم مُعزَّزين مُكرَّمين.
ولتحقيق هذه الأهداف التي تتوافق مع توجّهات (ومطالب) سائر السوريين من جميع الانتماءات ومختلف التوجّهات وفي الجهات كلّها، هناك ضرورة لاتخاذ جملة خطوات لا يمكن تجاهلها، إذا كنا ننوي بناء شعب ووطن ودولة على أسس صحيحة، والاستفادة من الاهتمام الدولي، خاصّةً الأميركي، بالموضوع السوري. وهذه الخطوات باتت معروفة لدى الجميع؛ ولكن مع ذلك، لا ضرر من إعادة التذكير بها؛ بل ربّما كانت في ذلك فائدةٌ لمن هيمنت على ذهنه الانفعالات الناجمة عن مشاغل وردّات فعل الفكر اليومي، فالسوريون اليوم هم بأشدّ الحاجة إلى حوار وطني عام بين الإدارة وممثلي جميع المكوّنات المجتمعية، والكيانات والتيارات السياسية، والفعّاليات المجتمعية، والشخصيات السورية المؤثّرة المعروفة بمصداقيتها وتوجّهاتها الوطنية. حوار تكون حصيلته التوافق على عقد اجتماعي وطني بين سائر شركاء الوطن من دون أيّ استثناء؛ عقد أساسه حقّ الشريك في إبداء الرأي، والمشاركة في الإدارة وفق مبدأ تكافؤ الفرص. عقد يطمئن الجميع من خلال التوافق على شكل الدولة ونظامها، وتوزيع السلطات واستقلاليتها، وتوفير الأرضية للتداول السلمي للسلطة من طريق فتح المجال أمام الأحزاب والمنظمات والجمعيات في الفضاء العام؛ لتعلن برامجها، وتتواصل مع الناس من خلال اللقاءات الجماهيرية والإعلامية، وعبر الاجتماعات التنظيمية.
ومن الضروري (والملحّ) أن يُتوافق، بموجب هذا الحوار الوطني، على استراتيجية وطنية لتطبيق العدالة الانتقالية وتحقيق المصالحة الوطنية، وذلك كلّه يستوجب التزام النزاهة والشفافية، وضرورة مساءلة ومحاسبة المُسيئين والفاسدين، والقطع النهائي مع خطاب الكراهية وإثارة النعرات بأشكالها كلّها. أنصاف الحلول أو أشباهها لن تعالج بصورة سليمة المشكلات الكبرى المُعقَّدة التي يعانيها السوريون. وهي مشكلات تمثّل حصيلة تراكم السلبيات خلال عقود طوال من حكم الأنظمة العسكرية المُستبدَّة، خاصّةً أثناء الحقبة الأسدية التي امتدّت على مدى أكثر من نصف قرن. وهذا ما يتّضح لنا إذا تمعنّا في نتائج ما أفضت إليه الخطوات والإجراءات المُستعجَلة التي اتُّخذت خلال العام الأول من عهد الإدارة الجديدة؛ وهي الخطوات والإجراءات التي طغى عليها البعد الإعلامي الدعائي.
السوريون بأشدّ الحاجة إلى حوار وطني عام بين الإدارة وممثلي المكوّنات والكيانات والفعّاليات
علينا أن نقرّ بأنه ليس في مقدور أيّ فريق بمفرده، مهما امتلك من مؤهّلات، ومهما حصل عليه من مختلف أشكال الدعم الخارجي، أن يتعامل مع التحدّيات الكبرى التي تواجه السوريين. فإدارة التنوّع السوري لا يمكن أن تكون إلا بجهود وتوافق السوريين جميعهم. والتعامل الحكيم مع المشاريع والحسابات الإقليمية والدولية المتمحورة حول سورية (مشاريع وحسابات لا يمكن أن نتجاهلها أو نتهرّب دائماً من استحقاقاتها) يقتضي الاعتراف بأننا لا نستطيع عزل أنفسنا عن العالم الخارجي، سواء القريب المجاور أم البعيد؛ بل ليس من مصلحتنا أن نفعل ذلك إذا كانت لدينا الرغبة في أن نعيش عصرنا من موقع الفاعل لا المفعول به.
نحن في حاجة ماسّة، إذا كنّا نريد الدولة العادلة المُستقِرَّة الإيجابية الفاعلة، إلى تفاهم السوريين وتوافقهم. أمّا أسلوب المراهنة على الخارج وحده، والاستقواء به على شركاء الوطن والمصير، فهو مُجرَّب، وقد أثبت عقمه وفشله في مختلف الدول التي تجاهلت حكوماتها احتياجات وتطلّعات شعوبها.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى