
بعد كل هذا الوقت، والجرائم، ما عادت الانتهاكات في حرب السودان مجرّد أخبار متفرقة. تراكمت الأدلة، وضاق هامش المناورة والإنكار. لا يمر يوم لا يصحو فيه العالم على مذبحة جديدة ارتكبتها قوات الدعم السريع. والاتهامات بارتكاب جرائم حرب في السودان، وجرائم ضد الإنسانية، في الحرب الممتدّة منذ 15 إبريل/ نيسان 2023، ليست مجرّد اتهامات متبادلة بين أطراف الصراع، لكنها أتت عن من الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وعدّة مؤسّسات حقوقية دولية.
ذكرت بعثة الأمم المتحدة المستقلة لتقصي الحقائق بشأن السودان، في تقريريها المتعاقبين، أن الأفعال التي ارتكبتها قوات الدعم السريع في سياق النزاع المسلح “ترقى إلى جرائم حرب”، وتدل منهجية الجرائم واتساع نطاقها على “سياسة متبعة، لا على تجاوزات فردية”. إنها العتبة الفاصلة بين الإدانة الأخلاقية وبين المساءلة الدولية.
وثقت تقارير المفوض السامي لحقوق الإنسان، ولجان التقصي الدولية، ما ارتكبته قوات الدعم السريع في إقليم دارفور وولاية الجزيرة، لا سيما في الجنينة والفاشر. وأظهرت التقارير أنماطاً متكرّرة من القتل على أساس عرقي، والتهجير القسري، والعنف الجنسي الممنهج، واعتراض المساعدات الإنسانية، وحرق القرى. وهي جرائم دين بها القائد السابق في مليشيات الجنجويد علي كوشيب، وحكمت عليه المحكمة الجنائية الدولية بالسجن 20 عاماً. جرائم الدعم السريع في حرب 15 إبريل جزء من سلسلة مترابطة من الانتهاكات، بدأت عام 2003 ولم تتوقّف بعد.
لافت أن كثيراً من جرائم هذه الحرب، كما ذكرت تقارير أممية، ارتُكبت في وضح النهار، وصوّرها أحياناً مرتكبوها أنفسهم. مقاطع مصوّرة متكرّرة لأشخاص مدنيين وأسرى يُعتدى عليهم وتتم تصفيتهم وسط صيحات التكبير والوعيد والتباهي. من العسير تفسير هذه الظاهرة إلا باليقين شبه الكامل بالإفلات من العقاب. لذلك يصوّر المجرمون أنفسهم، ويتباهون بقتلهم المئات، ويؤكدون أن لا أحد قادر على المساس بهم. ولا حتى قيادة الدعم السريع التي يزعمون أنها لا تستطيع محاسبتهم.
تتكوّن مليشيا الدعم السريع من شبكة معقدة من التحالفات والولاءات القبلية، لذلك يتمتع كثيرون بحصانة توفرها موازين القوى القبلية. لكن هذه الموازنات، مع الادعاءات المتتالية بأن الاتهامات الموجهة للدعم السريع إنما هي افتراءات خصومه من “فلول النظام السابق” أو “تآمر إقليمي” لا تعني الجهات الدولية. فما يهم التقارير الدولية هو أن مدنيين استهدفوا بسبب هويتهم واصولهم العرقية، وأن العنف ضدهم اتخذ نطاقاً واسعاً ومنظّماً، وشمل القتل والتعذيب والاضطهاد والاستعباد الجنسي والتهجير القسري.
بحسب تقارير دولية، حاولت “الدعم السريع” إعادة تشكيل ديموغرافية إقليم دارفور عبر النهب المنظّم والتدمير المقصود لمصادر الحياة ومقوماتها. لذلك طاردت العقوبات الأممية قادة المليشيا، كما طاردت قادة في الجيش السوداني، وأشخاصاً في قمة تنظيم الحركة الإسلامية السودانية. وفرضت الولايات المتحدة وبريطانيا عقوباتٍ على قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وشقيقيه، وقادةٍ عسكريين لديه، تشمل تجميد الأصول والمنع من السفر. وأعلن المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أن مكتبه ينظر في الأدلة المتعلقة بحرب دارفور الجديدة، مستنداً إلى الإحالة السابقة من مجلس الأمن. وهي الإحالة التي ترفض السلطة العسكرية في بورتسودان التعامل معها، إذ ما زالت المحكمة تحاول الوصول إلى الرئيس السابق عمر البشير وقادة في نظامه الذين تطلبهم بتهم مشابهة.
تعرقل الحسابات السياسية والموازنات الدولية قراراتٍ كثيرة في المجتمع الدولي. رغم ذلك، تواصلت إدانات ما ترتكبه الدعم السريع. كما أن العدالة الدولية قد لا يوقفها مجرد قرار واحد أو اعتراض يحمل الفيتو، إنما تتراكم ببطء عبر مسار طويل من التوثيق وإثبات الجريمة، انتهاء بالعقوبات والمحاسبة. قد تعرقل التوازنات الدولية إدانة، أو تؤجل محاسبة عاجلة، لكن ما يتراكم من أدلةٍ عبر مسار الدم الذي تخلفه الدعم السريع سيعجل بالانتقال من إدانتها بصفتها طرفاً في حرب أهلية مدمرة، إلى إدانتها بارتكاب جرائم حرب لا تسقط بالتقادم وقد يصعب الفرار منها مستقبلاً.
قد لا تأتي العدالة سريعاً. فكوشيب الذي دين أخيراً في الجنائية الدولية بجرائم ارتكبها بين عامي 2003 و2004. … عشرون عاماً انتظرها الضحايا من أجل لحظة العدالة. وربما هذا ما يجعل للعدالة قيمة. أن الضحايا يعلمون دائماً أنها قادمة، حتى لو لم يسمعوا صفير قطارها يقترب.
المصدر: العربي الجديد






