
اقترب أمس الجمعة مذنبٌ دُعي باسم “3 آي/ أطلس” من كوكب الأرض بمسافة تناهز 270 مليون كيلومتر، وهي “قريبة” بمفاهيم الفضاء، و”بعيدة” بمفاهيمنا نحن السكان على كوكب الأرض. طبيعة المذنب بحدّ ذاته كانت مغايرة لمعظم توقعات علماء الفضاء، إلى درجة بروز فرضيات كثيرة، ومنها أن يكون المذنّب البين نجمي (أي الطائر بين النجوم) مفتاحاً لمبادئ فيزيائية أخرى لم نكن ندركها، خصوصاً لتعدد ألوانه ولدقّة مساره بين كواكب المجموعة الشمسية. وهو ما يطرح فرضية أن يكون كل ما جرى إرساؤه من رياضيات وفيزياء مبنيٌّ حصراً على ما تعلمناه في المحيط الكونيّ المُكتشف، فيما أن مبادئ ونظريات أخرى مجهولة تماماً عنا، وحتى إنها قد تكون معاكسة.
المسألة هنا وبعلومها، تبقى أقرب إلينا مما نظنّ. مذنّب مثل هذا، لا أحد يعلم فعلاً متى عبر لآخر مرة، وما إذا كان قد عبر سابقاً في نظامنا الشمسي. ولا أحد يعلم ما هي القوة الدافعة له، ولا حتى ما إذا كان مذنباً “طبيعياً”، ولو بغير مفاهيمنا، أو “صناعياً”، مهما كان من صنعه. غير أن عبوره في زمن أضحت فيه البشرية أكثر إدراكاً مما كانت عليه قبل مائة عام، يطرح تساؤلات قد تتخذ أبعاداً فلسفية، وليس بالضرورة عدمية، عن تأثير مذنب واحد على حياة مليارات البشر. وإذا كان “أطلس” مجرد عابر سبيل، فإن مذنّبات أخرى قد لا تكون كذلك، ما يجعل من حيواتنا نبراساً لتساؤلات وجودية لا تنتهي، وأبعد بكثير من القلق اليومي، ومن الحاجة إلى معالجين نفسيين، ومن التفكير في كل لحظة في لحظتها، ومن الهرولة يمنة ويسرة لتأمين أموال المدارس والجامعات والطبابة، ومن السير “الحيط ع الحيط” كي لا ينزعج أحد بلطجي ما على قارعة طريق.
يُمكن لمرور مذنّب أن يدفع معلمة مدرسة، على سبيل المثال، إلى فهم ماهيتها في الحياة ودورها في التعليم لأجيال مولودة حديثاً. وقد يحفّز مثل هذا المذنّب عمالاً يعملون بالسخرة على الانتفاض في لحظة ما. وقد تُشعر ضخامة “أطلس” مجموعات بشرية بمدى ضآلة من يحكمها. وينطبق على ذلك الكثير من الأمثلة. حتى من يتهكمون على كل ما قد يتجاوز الغلاف الجوي، لن يكونوا بعيدين عن إشباع فضولهم، ولم لا خوفهم، كخوف الإنسان من مجهول، سواء كان صوت حيوان غير مرئي في العصر الجليدي، أم صرصور ينغل تحت باب ما في منازلنا في العصر الحالي. تخيلوا في مثل هذه اللحظة أن المذنّب العابر قادر على إطاحة تفكير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لجهة اعتباره أراضيَ اوكرانية أنها “أرض روسية”، وأن “أطلس” قادر على هزّ صورة الرئيس الأميركي دونالد ترامب وأفكاره التي لا تنضب. أيضاً لا يفرّق “أطلس” بين شعوب الأرض، بأديانها وأعراقها وثقافتها، كل ما “يراه” هو صخرة معلقة في فضاء رحب، أطلقنا عليها اسم “الأرض”.
العبور السلس لهذا المذنّب، بعد رحلة اكتشافه التي بدأت في الأول من يوليو/تموز الماضي، يعيد الأمور إلى نصابها للكوكب برمّته: في الداخل، باستطاعة البشر وحدهم إفناء وجودهم، من دون إنهاء الكوكب. أما في الخارج، فوحدها الأجسام الفضائية ومنها المذنّبات، قادرة على قتل كل ما هو حيّ على هذه الصخرة. هنا، يبدو أن إدراكنا لإنساننا الدفين وحاجتنا الغرائزية إلى البقاء على قيد الحياة، يتفاعل أكثر حين نعيد ترتيب أولوياتنا، بعيداً عن الانغماس في يوميات عقيمة وإلهاء غير ضروري ولا نافع. في إعادة ترتيب الأولويات صفاء داخلي وإشباع نفسي لمفهوم الحياة ومبدأ البحث عن أنفسنا في دواخلنا لا في عيون الآخرين وكلامهم عنا. عبور “أطلس” مجرد تذكير بمدى بعدنا عن التماهي مع الحياة، وبمدى رغبتنا في تدمير الخصائص الإنسانية من أجل واقعية مادية غير صحيحة، مهما قيل وكُتب عنها. هناك بعض حياة لدينا، في وسعها إشعالنا في الداخل والبدء من جديد.
المصدر: العربي الجديد






