
يحتفل العالم في الثامن عشر من ديسمبر/ كانون الأوّل من كلّ عام باللغة العربية تخليداً للقرار الذي اتخذته الأمم المتحدة سنة 1973، حين أصبحت العربيّة لغة رسميّة سادسة داخل المنظمة. تتردّد في هذا اليوم خطب عن جمال العربية وعمق جذورها، غير أن هذا الاحتفال يخفي وراءه سؤالاً ملحّاً: هل تستطيع العربية أن تحافظ على مكانتها في عالم يتّجه سريعًاً إلى صدام لغوي لا يقلّ حدّة عن صدام الحضارات؟
لم تعد اللغة مجرّد وعاء للمضمون، بل تحوّلت إلى رمز نفوذ واستحواذ. وكلما اتّسعت سيطرة إحدى اللغات على الاقتصاد والعلم والتكنولوجيا، تراجع حضور اللغات الأخرى بالضرورة. وثمّة اليوم منظومة من القوى تدفع باتجاه مركزيّة الإنكليزيّة في مواجهة اللغات الصاعدة، فما بالك بالعربيّة. وليس الأمر في هذا السياق مجرّد تنافس. إنّه حربٌ حقيقيّة داخل الفضاء الرقميّ والمؤسّسات التعليميّة والوعي الفرديّ نفسه.
ليس من العسير تبيّنُ ذلك في “مراسلاتنا الإداريّة” العربيّة التي ما انفكّت “تتراجع” أمام الانكليزيّة أو الفرنسيّة كلّما رغبنا في إبراز إنجاز أو مخاطبة مؤسّسةٍ مَا. نقرأ الأخبار بلغتنا، لكنّنا نعود إلى اللغات الأجنبيّة ما إن نبحث عن فكرة جديدة أو معلومة دقيقة. وليس هذا الانقسام النفسي ترفاً، بل هو علامةٌ واضحة على حيرةٍ قيميّة لم يُحسَم أمرُها كلّ الحسم: هل لغتنا صالحة للعالم الحديث أم أنها لغة ماضٍ جليل وحاضر مرتبك؟
يهبط الذكاء الاصطناعيّ في هذا المشهد، هبوطَ فاعلٍ لغويّ “خارق” يزيد الصدام حدّة. لم تعد المنافسة بين اللغات “البشريّة” فحسب، بل بينها وبين لغات خوارزميّة تصوغ النصوص وتولّد المعاني بسرعة مرعبة. والخوف كلّ الخوف أن تتحوّل العربيّة إلى مادة تجترُّها الآلة أكثر ممّا تنتجها الروح البشريّة. قد تتقن برمجيّات الذكاء الاصطناعي قواعد العربيّة، لكنها عاجزةٌ عن التقاط دهشة الجملة العربية حين تنبض من شعرٍ أو سردٍ أو حكمة. ورغم ذلك، تبدو الآلة مقبلة على احتلال مساحة واسعة من فعل الكتابة، وهي مساحة كانت بعضاً من هويّة اللغة والناطقين بها.
ليس سؤال “الصدام” نظريّاً. انتشرت الانكليزيّة بنسبةٍ تفوق معظم اللغات الأخرى في العالم الرقميّ، حيث تُقاس اللغة بالبيانات، بينما يُقدَّر المحتوى العربي على الإنترنت بأقلّ بكثير من الوزن الديمغرافيّ لعدد المتحدّثين بالعربيّة. وثمّة مشهد آخر أشدّ إثارة للتساؤل: يتباهى الجيلُ العربيّ الجديد بمحتوى غزير على شبكات التواصل، لكنه محتوى غير مستقرّ، ولا هو مؤسساتيّ، وهو قليل الأثر في مجالات المعرفة والبحث، وغالباً ما تشوبُهُ لغةٌ هجينة تتقدّم فيها الأجنبيّة على الفصحى.
تبدو العربيّة في هذا السياق وكأنّها تدخل ساحة صدام لغويّ عالميّ بلا دروع حقيقيّة: تعليم مرتبك، إعلام مُكبّل، علاقة معقّدة بين الفصحى واللهجات، إضافة إلى غياب الاستثمار الجاد في المشاريع الرقمية الكبرى. نحن نحتفل بيوم اللغة العربيّة، لكننا نتجاهل سؤالاً أساسياً: ما الذي يمنعنا من إنتاج معرفة حرّةٍ “مُحرِّرةٍ” بلغتنا؟ ليست المشكلة في أن الإنكليزية قويّة. المشكلة في أن العربيّة، بالرغم عن ثرائها البيّن، لم تُمنَح المساحة التي تستحقّ من الحريّة لتتَحرَّرَ وتُحرِّر.
ليس الصدام بين اللغات معركة رصاصةٍ، من يطلقها الأوّل، بل معركةُ نفَس طويل. وللعربيّة مصادر القوّة نفسها التي تتيح لها الانتصار في هذه المعركة، بتوفّر الإرادة، وعلى رأسها قدرة هائلة على التكيّف. لا شرط للبقاء أفضل من التحوّل. وإذا كان العالم مقبلاً على صدام لغات، فعلينا أن نتجاوز الاحتفالية الخطابيّة إلى مشروعٍ واعٍ يجمع بين غايات لا تتجزّأ: أن ننطق بالعربيّة وأن نفكّر بها، أن نطور أدوات رقميّة متقدّمة، أن نحرّر التعليم من الانقسام القيميّ، وقبل كلّ شيء، أن نعيد علاقتنا بالعربية إلى منطقة الثقة: أن نُبدع بها من دون شعور بالنقص، وأن نحلم بها من دون خوف من المستقبل.
في الثامن عشر من ديسمبر/ كانون الأوّل من كلّ عام، نحتفل بلغتنا، نعم. إلاّ أن هذا الاحتفال يجب أن يكون اعترافاً أيضاً بأنّ لغتنا في حاجة إلينا. لقد بات صدام اللغات واقعاً معيشاً، ولن يكون الانتصار فيه لمن يملك تراثاً أعظم، بل لمن يصنع غداً أوسع بلغته. والعربية، إذا أُعطيت الفرصة، ليست أقلّ قدرةً على ابتكار المستقبل من أيّ لغة أخرى.
المصدر: العربي الجديد






