
نشرت الإدارة الأميركية يوم الخامس من ديسمبر/ كانون الأول الجاري وثيقتها الرسمية “استراتيجية الأمن القومي الأميركي”، وهي تحدّد رؤية الإدارة اتجاه أولوياتها ومهمّاتها خلال ولاية الرئيس دونالد ترامب التي تمتد إلى نهاية عام 2028. ويُعدّ نشر الوثيقة الذي تلتزم به كل إدارة جديدة تعبيراً عن شفافية النظام الأميركي، وعن الثقة بالذات القومية، وتصريحاً يخاطب الدول بمحدّدات السياسة الخارجية لواشنطن. وقد عكست هذه الوثيقة آراء ترامب وفريقه التي جرى التعبير عنها خلال الحملة الانتخابية للرئيس الحالي، وكذلك خلال عامه الأول في البيت الأبيض، وبالذات حول مبادئ “أميركا أولاً” و”لنجعل من أميركا عظيمة مرّة أخرى”، وسياسة عدم التدخّل في الصراعات الخارجية، مع اقتران هذه التوجهات بما يشبه إعلان الحرب المعنوية على الهجرة والمهاجرين، وهو ما يقود إلى التوقف عند توجهات هذه الإدارة خلال هذه الولاية حيال الشرق الأوسط. إذ تكشف الوثيقة عن قناعة الإدارة بأن هذا الإقليم “تراجعت ضرورته الاستراتيجية للولايات المتحدة، ولم يعد ذلك المصدر الدائم للإزعاج، من دون أن يفقد أهميته بالكامل”. أما الضرورة الاستراتيجية فتتعلق بالطاقة؛ النفط والغاز، بعد أن باتت الولايات المتحدة منتجاً رئيسياً للطاقة في عالمنا، وغير مرتهنة للاستيراد من الخارج. أما انقشاع الإزعاج فيتعلق بانكفاء التحدّي الإيراني وما لحق بحزب الله وحركة حماس من تراجع كبير في القدرات. ولا ترى الوثيقة في الاحتلال الإسرائيلي مصدر خطر أو إزعاج لأي أحد في الشرق الأوسط، خلافاً لـ”مزاعم” شعوب المنطقة وأغلبية الجمعية العامة للأمم المتحدة! وتنجح الوثيقة في نسج عباراتٍ على قدرٍ من التضارب، فمع تراجع مكانته الاستراتيجية، بات الشرق الأوسط “مكاناً للشراكة والصداقة والاستثمار”، ما يكشف أن المقصود أن منطقتنا لم تعد تشكّل مصدر خطر على المصالح الأميركية، وهذا هو معنى تراجع ضرورتها الاستراتيجية في الوثيقة.
يتساءل المرء منذ متى كانت دول المنطقة العربية تشكل مصدر خطر أو إزعاج؟ نعلم أن الدول العربية في المشرق والمغرب تجنّدت، منذ عام 2001 على الأقل، في حملة مكافحة الإرهاب التي صمّمتها واشنطن، تعبيراً عن مراعاة المصالح الأميركية، وكذلك، إلى حد كبير، حفاظاً على المصالح العربية في سياق التصدّي للظاهرة الإرهابية. وبدلاً من سياسة توجيه الضغوط الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية اختارت واشنطن آنذاك شن الحرب على أفغانستان والعراق. وهو ما تنتقده الإدارة الحالية، تكريساً لما تعتبره واشنطن الحالية مبدأ عدم التدخل، بينما كانت تنتقد في السابق من يخطّئ خيار الحرب، بيد أن هذا المبدأ لا يجد ترجمة كاملة له في السلوك الأميركي، فإضافة إلى ضرب إيران في صيف العام الجاري فيما كانت الأجواء مهيأة للتفاوض معها، سمحت واشنطن لإسرائيل بمواصلة استباحة لبنان، رغم اتفاق وقف إطلاق النار في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 بين الجانبين، وأيّدت هذا السلوك الإسرائيلي، وقرنته بتوجيه ضغوط سياسية شرسة على لبنان، وما زالت واشنطن على سياستها هذه. وحتى مع سورية، رغم انتقادات أميركية التعدّيات الإسرائيلية اليومية على هذا البلد، الذي يعيش مرحلة انتقالية حسّاسة، لم توقف هذه الانتقادات مسلسل التعدّيات، ما يُثير التساؤل بشأن مدى جدّية الموقف الأميركي وفاعليته، وربما صدقيته. ومغزى ذلك أن تل أبيب ترتكب ما باتت واشنطن تعفّ عن ارتكابه، وكأن الأمر يتعلق بتوزيع أدوار بين الحليفين، وليس بسياسة جديدة تتبعها واشنطن.
غضّت واشنطن النظر علناً عن ارتكاب جيش الاحتلال مزيداً من الجرائم ضد المدنيين في غزّة
ومع أن وثيقة استراتيجية الأمن القومي تحمل قيمة مرجعية، وتنطوي على مبادئ عامة معلنة، وملزمة لأصحابها أمام الرأي العام الداخلي بالذات، وأمام الكونغرس بمجلسيه على الخصوص، إلا أنها ليست بمنزلة خريطة طريق أو برنامج عمل بالضرورة، فهي شبيهة بالدستور في دولٍ عديدة، والذي يتم التقيد به أحياناً، والتفلّت منه في أحيان أخرى. وبالنظر إلى الوثيقة، يجد التضارب في الرؤى التي تعبّر عنها الاستراتيجية مثالاً آخر له في الإشارة إلى أن إمدادات الطاقة العالمية، وأمن إسرائيل، وحرّية الملاحة عبر مضيق هرمز وباب المندب والبحر الأحمر، ما زالت تُعتبر “مصالح حيوية”، تستوجب حضوراً عسكرياً وسياسياً أميركياً، ما يعني أن المنطقة ما زالت تحظى بقيمة استراتيجية عالية، وأن واشنطن تبقى على أهبة الاستعداد للتدخل، فيما الدولة الإسرائيلية ما زالت تتمتع بالرعاية التامة. وبينما تبدي الحرص على أمن إسرائيل، لا تُلاحظ الوثيقة مدى التهديد المقرون بالأفعال التي تمثله إسرائيل لدول الجوار وشعوبها، علاوة على شعب فلسطين الذي يتعرّض لإبادة منهجية فعلية ومعنوية في الضفة الغربية المحتلة كما في قطاع غزّة. فما الجديد، إذن، في الوثيقة بما يتعلق بمنطقتنا؟
ومع الأخذ في الاعتبار أن الإدارة الحالية قد ضغطت بالفعل على الحكومة المتطرّفة في تل أبيب لحملها على القبول بوقف إطلاق النار، وهيأت للتوافق على خطّة ترامب، إلا أن واشنطن غضّت النظر علناً عن ارتكاب جيش الاحتلال مزيداً من الجرائم ضد المدنيين في غزّة، ما أدّى إلى سقوط نحو 400 ضحية، نسبة كبيرة منهم من الأطفال. فضلاً عن تقليص المساعدات المقرّرة، وتعريض حياة المدنيين للخطر في أجواء شتائية، وحتى تاريخه قضى 17 ضحية نتيجة السادية الإسرائيلية المتوحشة، من دون أن تبدي واشنطن كلمة تعاطف واحدة مع الضحايا وذويهم.
ثمّة تغيّر حيال الشرق الأوسط تتضمّنه وثيقة استراتيجية الولايات المتحدة للأمن القومي، لكنه يبقى طفيفاً وغير جوهري
وفي ما يتعلق بالشرق الأوسط مرّة أخرى، فإن قرارات منع دخول الأراضي الأميركية أو منع الحصول على إقامة دائمة استهدفت دولاً عربية عدة وشعوبها، ولم تجد الإدارة وسيلة للتعاطف مع الفلسطينيين في محنتهم الحالية سوى منع حاملي الوثائق الفلسطينية من دخول الولايات المتحدة، حتى لأغراض لم الشمل. ونستذكر أن ترامب أصدر أمراً تنفيذياً يمنع التمييز ضد الديانة المسيحية، وهو قرارٌ جيد ومطلوب، فيما المساس بالديانة اليهودية تشمله أحكام حظر معاداة السامية. أما ديانة الإسلام (يعتنقها نحو ملياري إنسان في القارات الست) فإنها لا تحظى بأية حماية رسمية قانونية، وهو حال ديانات أخرى، مثل الهندوسية والبوذية.
قصارى القول إن ثمّة تغيّراً حيال الشرق الأوسط تتضمّنه الوثيقة، لكنه يبقى طفيفاً وغير جوهري، ويقابله رفع مستوى العداء الثقافي والأيديولوجي، وهو ما تعكسه السياسات بالغة التشدّد حيال المهاجرين، وحتى إزاء من يتمتعون بإقامات طويلة، علاوة على تحريض أوروبا على الأخذ بسياسات إغلاق الأبواب أمام المهاجرين. وهؤلاء في المقام الأول من غير البيض، ومن المسلمين، ما يُعد دعماً صريحاً وتدخلياً لأحزاب اليمين الشعبوي المتطرّف في القارّة الأوروبية، كما في الداخل الأميركي، بدعم مثل هذه التيارات التي تقف على يمين الحزب الجمهوري الذي ينتمي ترامب وفريقه إليه.
المصدر: العربي الجديد






