قراءة في رواية: تل الورد

عبد المجيد عرفة

أسماء معيكل روائية سورية متميزة. قرأت لها رواية ليالي الخذلان وكتبت عنها. تل الورد رواية أسماء معيكل التي نكتب عنها، تعتمد في سردها على ضمير المتكلم. عبر فصول الرواية، متنقلة من شخصية إلى أخرى من شخصياتها المتعددة، حيث صوّرت الرواية حياة عائلة السيد راغد المعرّاوي وزوجته حسيبة اللاذقاني، وأبنائه عمران وربيع وباهرة، وكنّته كافي زوجة عمران وحفيده حيّان، وكيف كانت تعيش في قرية تدعى “تلّ الورد” حياة مطمئنة هادئة، ما لبثت أن اهتزت واضطربت لتتشظى العائلة ويلقى أفرادها جميعًا مصائر مأساوية تشبه مصائر الشخصيات في الملاحم القديمة. في الفصل الأول، صورت الكاتبة طبيعة الحياة التي كان يعيشها الناس في تل الورد، بلاد تشبه الجنة بأشجارها وورودها وعلاقات المحبة والتآخي والتعاون بين أهلها، والتعاضد في الأفراح والأتراح وجني المواسم، لكنها كشفت من جانب آخر عن وجود بؤر عميقة كامنة، سرعان ما ستنفجر وتشتعل مثل النار في الهشيم، ما أدى إلى تحول السكون والهدوء والوداعة التي كانت تحياها تل الورد وأهاليها إلى اضطرابات وفوضى عارمة بدأت سلمية ثم ما لبثت أن تحولت إلى عنف غير مسبوق بعد أن سفكت الدماء وانقلب الحال رأسا على عقب. في الفصل الثاني عمت الفوضى والذعر أمام ما حدث، وانقسمت الأسر بين مؤيد ومعارض لما يحدث، ولم تنج عائلة المعراوي من هذا الصراع، فقد وجد المعراوي ابنيه على طرفي نقيض الأول ربيع الذي دُفع للانشقاق عن المخفر الذي كان يعمل فيه بعد تعرضه للاعتقال والتعذيب؛ لأنه رفض إطلاق النار على أبناء قريته، ومضى ليصنف على أنه إرهابي، والثاني عمران الذي لم يكن يرغب في أن يكون طرفا في هذا النزاع لكنه وجد نفسه في الطرف النقيض لأخيه بعد أن أُعلن سحب من هم دون الأربعين للجيش بصفة احتياط لمحاربة الإرهابيين، وأمام هذا المأزق لم يكن أمام عمران وعائلته الصغيرة من خيار فقرر النزوح بتشجيع من والديه اللذين لا يرغبان برؤية أحد أبنائهما يقتل الآخر.
فرّ عمران مع زوجته كافي وابنه الصغير حيان تحت جنح الظلام بدون خطة مسبقة، بعد أن حشروا جميعا بين البهائم في شاحنة أوصلتهم إلى أقرب معبر بين تل الورد والحدود التركية، وهناك انتظروا على المعبر طويلا إلى أن تمكنوا من العبور وخوض رحلة شاقة سيرا على الأقدام إلى أن وجدوا أنفسهم في كلس، لتبدأ مرحلة جديدة من الشقاء والمعاناة في الفصل الثالث في تركيا، ولتنتهي هذه المرحلة بتسليم حيان الطفل الصغير للمهربين ليلقوا به بين العشرات في قارب عرض البحر ليخوض رحلة النزوح إلى أوربا، وليكون وسيلة لإنقاذ والديه من المعاناة التي اشتدت عليهم بسبب بعض المتطرفين من الأتراك والتعامل معهم بعنصرية، واستغلالهم، وخوف عمران على مستقبل حيان، بعد أن أقنعه أحد المهربين أنهم في أوربا يهتمون بالموهوبين أمثال حيان وأن مستقبل حيان هناك. وبالتزامن مع وجود عمران وعائلته في تركيا، كشفت لنا الكاتبة في الفصل الرابع ما حل بتل الورد وعائلة المعراوي عبر شخصية الأخت الكبيرة باهرة الشاهدة على مصائر فاجعة لبقية أفراد العائلة وأهالي تل الورد، ولم تنج هي أيضا من أكثر المصائر قتامة، حيث فقدت عذريتها على يد مجهولين اختطفوها في وضح النهار واغتصبوها، ثم تعرضت للاغتصاب أكثر من مرة من قبل أطراف متعددة، ولم تجد من يذود عنها. وكانت شاهدة على اعتداء أخيها ربيع على والدتها وإجبارها على توقيع ورقة الاستتابة بعد أن صار متطرفا، ما نتج عنه صدمة أفقدت الأم عقلها وأسلمتها للنسيان فلم تعد تذكر أي شيء بعد حادثة الاستتابة وأن لها ابنا اسمه ربيع، وانكفأت لتعيش في وهم عرس عمران الذي تجهز له وهي تقبع خلف ماكينة خياطتها القديمة، ونسيت عمران وعائلته ونزوحهم. كما شهدت باهرة اعتقال والدها من وسط بيتهم على يد رجال مجهولين، ليعاد إليها بعد أيام شبه جثة هامدة ملقية أمام باب الدار، ولتكتشف بعد أن يتعافى أنه دخل في الصمت الذي لن يخرج عنه حتى وفاته. وبالعودة إلى عمران وعائلته في الفصل التالي، نتعرف على الجنون الذي أصاب كل من عمران وكافي بعدما تعثر لم الشمل مع ابنهما الوحيد، فالثلاثة أشهر التي وعده بها المهربون للم الشمل، امتدت إلى سنوات. أما كافي التي تعرضت لاغتصابات لم يدر عنها أحد ولا حتى زوجها، ومع تعثر لمّ الشمل مع وحيدها بدأت تذبل وتذوي وهي منكفئة على آلامها، وأورثها ما تعرضت له أمراضا نفسية قادتها إلى تعذيب نفسها وجسدها فراحت تمعن في وخزه بالإبر ووشمت كل جزء فيه، كما أدمنت زيارة الأولياء والصالحين، بينما عمران انخرط في أعمال غير مشروعة من تهريب وغيرها، إلى أن انتهى بهم المطاف إلى نجاح لم الشمل، وخوض رحلة مريرة للوصول إلى هولندا.
في الفصل المعنون بـ”الدكتور” نقلتنا الكاتبة إلى حيان، الطفل الذي لا يتجاوز عمره عشر سنوات، لتصوره لنا وهو يستعيد حياته الماضية ورحلة الموت إلى أوروبا وما عاناه من أهوال إلى أن وصل إلى معسكر للّاجئين في هولندا، ولتتلقفه فيما بعد أسرة هولندية مسيحية من أصول لبنانية، ليجد نفسه محاطا بعائلة جديدة غير عائلته، وتختلف عنها في كل شيء، ولتبدأ معاناته إلى أن يندمج فيها بعد أن تعثر لمّ الشمل مع أهله لسنوات، ينتهي الفصل بنجاح لمّ الشمل، ثم يتذكر لقاءه بعائلته مجددا حيث تبدأ رحلة معاناة عكسية مع عائلته الفعلية التي لم تتقبل ما صار عليه، وظلت تنظر إليه على أنه ذلك الطفل الصغير الذي تتحكم بمصيره، لكن الطفل الذي صار فتى لم يحتمل طريقة التفكير التي صعقته من قبل والديه، فقرر الهرب بعيدا إلى مكان مجهول.
أمّا ربيع الأخر الأصغر لعمران، الذي أُعلن موته سابقا، يكشف السرد عن وجوده في أحد المشافي في تركية، حيث يخضع لعمليات معقدة بعد أن أصيب في المعركة ونقل إلى ذلك المشفى، وينتج عن إصابته عجز كامل فيتحول إلى شاب مبتور الساقين، وفاقد لذكورته، يحيا في مأوى للعجزة، يستعيد حياته الماضية منذ أن كان طفلا وسيما ووديعا يخشى رؤية الدم مرورا بتطوعه في سلك الشرطة، ومن ثم ذهابه مع الثائرين، وانضمامه إلى مجموعة متطرفة ليصبح بتر الرؤوس متعة لديه معتقدا أنه بذلك يمحق الكفرة، ويتشبع بفكرة الشهادة والجهاد، ويتسبب بمحاكمة والده، وما فعله بأمه، وعدم فوزه بالشهادة والجنة، وانتهائه حائرا في المصير الذي آل إليه، فلا هو حي ولا ميت.
وفي الفصل ما قبل الأخير نتتبع الرحلة العكسية التي خاضها عمران مع زوجته المريضة كافي التي وصلت إلى حافة الموت، بعد أن ضاع الأمل بالعثور على حيّان، فوجد عمران وكافي أن بقاءهما في هولندا لا معنى له فمن جاؤوا من أجله لم يعد موجودا، ولم يعد يربطهما شيء بهذه البلاد، فيقرران العودة إلى “تل الورد”، وعلى عكس الرحلة التي حملتهما إلى هولندا وهما مفعمان بالأمل وتحقق لمّ الشمل، والمستقبل المشرق الذي راحا يتخيلانه، عادا وهما محملان باليأس والإحباط، وخيبة الأمل، كمن قرر العودة للموت في مسقط رأسه، وفي طريق العودة تزداد حالة كافي سوءا، وتزداد حالة عمران يأسا وإحباطا وهو يشاهد الدمار الذي طال بلاده وكيف تغيرت ملامحها ولم يعد يرى شيئا كما كان عليه في السابق، ويرى الجنود الذين يرقصون ويدبكون فوق الركام، فيزداد أسى.
ختمت الكاتبة روايتها بفصل عنونته بـ “حبطراش” حيث يلتقي فيه عمران بأخته باهرة ويتعرف على حال أمه الصادم وفقدانها ذاكرتها وقد علقت عند لحظة محددة مرتبطة بابنها عمران ذلك الشاب الوسيم الذي تستعد لعرسه، بينما هو ماثل أمامها ولا تعرفه، وتعلمه باهرة بمصير والده المأساوي ووفاته صامتا، ثم تصحبه في جولة ليكتشف الدمار الذي طال تل الورد كلها فغير معالمها، كل شيء مدمر، ورائحة الموت حلّت مكان رائحة تل الورد التي كان يعرف قريته منها ويميزها عن جميع روائح القرى والبلدان المجاورة، كل شيء تحول إلى ركام. وجوه الناس تغيرت، وبدا أن تل الورد قد لبست وجها غير وجهها الذي يعرفه، لا يحتمل الصدمة فقد خرج من تل الورد يوم كانت جنّة الورد، ولم تدمر بعد، وعاد ليجدها حبطراش، لذا تهاجمه الحمى التي تشلّ نصفه السفلي ليصير عاجزا نفسيا وجسديا أيضا، تنتهي الرواية بمشهد يجمع باهرة مع عمران يتأملان الدمار المحيط بهما والركام الذي يجلسان فوقه، ما يجعلهما ينكصان إلى مرحلة الطفولة، يوم كانا يركضان ويلهوان بين البساتين الخضراء، وتحضر صورة والدهما ويرتفع صوته شجيا يغني في مواسم جني المحاصيل، ومن بين الدموع التي تنهمر من عينيهما يرددان ما كان يردده والدهما: خضرا يا بلادي خضرا ورزقك فوار، بهذه النهاية الفاجعة انتهت الرواية معمقة الحس المأساوي عبر المفارقة التي تظهر التناقض الصارخ بين الأغنية التي تتحدث عن الخضرة، وبين الواقع وقد استحال إلى حبطراش.
رواية “تل الورد” بأحداثها المأساوية ومصائر شخصياتها الفاجعة تعد ملحمة لأي بلد في العالم لم ينج من مصير فاجع بسبب الحروب والصراعات الدامية. ابتعدت الكاتبة في سردها عن الأدلجة والتقريرية، أو ما تذهب إليه الروايات حينما تتناول مثل هذه الموضوعات من طريقة وثائقية وتسجيلية، وركزت على معاناة الجميع في ظل الحرب. وجعلت الكاتبة من جميع شخصياتها أبطالا، ولكل بطل ملحمته، ومصيره الفاجع بفعل الأحداث الملحمية التي عصفت بالبلاد والعباد، دفع البسطاء ثمنا باهظا لها، ولتكون تل الورد وباهرة وكافي والأم وجميع شخصيات الرواية معادلا موضوعيا لسورية البلد الجميل، تل الورد، الذي دمرته الحرب وحولته إلى حبطراش.
في التعقيب على الرواية أقول:
الرواية صدرت في عام ٢٠١٩م. وهذا يعني أنها غطت سنوات الثورة السورية الثمانية الأولى، والحدث السوري بكل تداعياته وواقعه كان حاضرا في ذهن الكاتبة.
أعترف أن رواية “تل الورد” رواية كثيفة تكاد لا تترك جزئية مرت عليها في سياق عملها الروائي إلا وأشبعتها. النظام وبنيته الطائفية، و توحشه، وإذلاله للشعب، وتدميره البلد، وتهجير الناس ودفعهم إلى النزوح واللجوء لحماية أنفسهم من الإفناء المتعمد، إن غنى كل فصل من فصول الرواية بأحداثه وأبطاله وشخصياته تجعله قابلا لأن يكون رواية بحد ذاته، وأود لفت الانتباه في هذا السياق إلى أن الرواية ببنيتها وأحداثها وتركيبتها ولغتها التصويرية، قابلة لإعادة الإنتاج فنيا، فكل فصل من فصول الرواية يمكن أن يكون مشروع عمل سينمائي، أو مسلسل درامي، إذا وجد مخرج جاد يهتم بالرواية، وإعادة إنتاجها وإخراجها في عمل مهم، يعيد تمثيل ما حدث في سورية دراميا، أو سينمائيا، ولا سيما على الصعيد الإنساني ومعاناة الناس التي دامت طويلا.
على الرغم من ظهور النظام وأفعاله واستدعاء الروس والإيرانيين وظهور بعض الجماعات المتطرفة كان خلفية للحدث الروائي العام؛ بيد أن الرواية غاصت عميقا في واقع الناس، فصورت معاناتهم وما آلت إليه أحوالهم، مبتعدة كل البعد عن الأدلجة واللغة التقريرية والمباشرة، والتحيز لطرف على حساب طرف آخر.
إن مآلات شخصيات الرواية كلها كارثية، تذكرنا بمصائر الشخصيات في الملاحم الإغريقية، لقد أدى تعثر الثورة، وانحراف مسارها عن هدفها الأساسي في إسقاط النظام بتسلط داعش وغيرها من الجماعات المتطرفة، ودخول الأطراف الكبرى في الصراع الحاصل في سورية إلى حرب مدمرة أطالت عمر النظام المستبد، ودفع أهالي تل الورد الثمن باهظا، فتحولت تل الورد إلى تل الموت والدمار على المستويات كافة. قدمت الرواية عالما شديد القتامة، فاجعا ومأساويا، لكنه واقعي، بل ربما ما جرى في الواقع أشد سوداوية مما صورته الرواية، ففي المرحلة الزمنية التي غطت أحداثها الرواية، وصل الوضع في سورية إلى دائرة مغلقة، ونفق مظلم غاب فيه أي بصيص أمل في الخلاص من النظام المجرم، لا سيما بعد خسارة المعارضة لحلب، وتصدير الإعلام للنظام على أنه انتصر على الإرهاب، وبدأت أطراف عربية وإقليمية ودولية تعمل على إعادة تأهيله، وحينما سقط النظام وفر هاربا بعد معركة ردع العدوان في الثامن من ديسمبر 2024 في لحظة تشبه الحلم، ظهر بشكل أوضح حجم الفاجعة التي خلفها وراءه، فمشاهد الدمار والمعتقلات والمسالخ البشرية ومكابس الحديد في سجن صيدنايا وغيره، والمقابر الجماعية، والواقع المزري للناس على كافة الأصعدة، يجعل ما صورته تل الورد أقل مأساوية مما هو عليه الواقع، وربما يمكننا القول إن الخيال يقف عاجزا أحيانا عن تصوير بشاعة ما يجري في الواقع وما فعله النظام المستبد بسورية/تل الورد، فالواقع أشد قساوة من كل ما رأيناه في تل الورد وفي غيرها من الروايات التي تناولت الحدث السوري.
أخيرا لا بد من الإشارة إلى المشهد الذي رآه عمران في طريق عودته إلى تل الورد، حينما رأى جنود النظام يدبكون فوق ركام المدرسة والبيوت المدمرة احتفاء بالنصر المزعوم! حيث يتقاطع مع المشاهد المسربة مؤخرا لبشار الأسد مع مستشارته لونا الشبل، ورؤيته يضحك ضحكته البلهاء، وهو يرى مشاهد الغوطة المدمرة بعد أن استعادها. وإلى ذلك فإن نهاية تل الورد ظلت مفتوحة على حلم استعادة تل الورد قبل دمارها من خلال نكوص عمران وباهرة إلى مرحلة الطفولة، مرحلة البراءة، واستحضارهما لتل الورد قبل دمارها، ولعل تحرير سورية وسقوط النظام، أعاد الأمل إلى أهالي تل الورد كلها في إعادة إعمارها وازدهارها لتنهض من تحت الركام سورية جديدة ومشرقة، دولة لكل السوريين، وليست مزرعة لعائلة كما كانت سابقا، دولة تحتفي بالإنسان وكرامته، دولة مواطنة تتسع للجميع، وتحقق العدالة المنشودة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى