
عام 2005، وعلى خلفية الضغوط الشديدة التي سلطها المحقق الدولي في قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، النائب في حينه، رفيق الحريري، ديتليف ميليس، على النظام البائد في سورية عبر التوسّع في التحقيقات لتشمل قيادات حسّاسة في مخابراته وارتفاع نسبة توجيه اتهام لرأسه، بشّار الأسد، بإصدار الأوامر بتنفيذ الجريمة، انتشرت رواية بين ضباط المخابرات وعناصرها من أبناء الطائفة العلوية تقول “إن حكم العلويين في سورية سيدوم 40 عاما”، وفق ما جاء في كتاب “الجفر”، الذي يُنسب إلى علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه). لكن الحكم استمر، على الضد من هذه الرواية، لاعتبارات إقليمية ودولية حتى تجاوز النصف قرن بسنوات. لم يتم التفكير في تآكل شرعية النظام على خلفية ممارساته الداخلية والخارجية والنظر في تعديل بعضها وتغيير أخرى والعمل على كسب رضا الشعب عبر العدل والمساواة في الحقوق والواجبات من دون تمييز وإشراك المجتمع في القرار الوطني عبر مؤسّسات وسيطة، الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، وتحقيق توازن في مشاريع التنمية بين المحافظات وتوزيع عادل للثروة بين المناطق والأفراد لتعزيز شرعية نظامه واستقراره، بل جرى اللجوء إلى تفسيرات غيبية وغير عقلانية لزوال الحكم. كما كانت الفرصة لاحتواء ردات فعل السوريين كبيرة لو أن رأس النظام أحسن التصرف عام 2011 في مواجهة التظاهرات الأولى في درعا، ولبّى مطالب شعبية معروفة مثل رفع حالة الطوارئ والافراج عن المعتقلين السياسيين وإطلاق الحريات العامة والخاصة، كانت معاقبة رئيس فرع الأمن السياسي في محافظة درعا العميد عاطف نجيب على تصرّفه العنيف وغير الأخلاقي مع ذوي الأطفال الذين اعتقلهم على خلفية كتابتهم شعار “أجاك الدور يا دكتور” على جدران مدارس في المدينة وتفنّن في تعذيبهم؛ كانت كافية لامتصاص الغضب وتخفيف التوتر والاحتقان، خصوصاً مع ارتفاع فرصة وصول ثورات الربيع العربي إلى سورية؛ لكن العزّة أخذته بالإثم، وزعم أن نظامه محصّن ضد الثورات.
نسي النظام البائد، بعد تحويل الاتهام باغتيال الحريري نحو حزب الله اللبناني، وبدء تحرك عربي، سعودي على وجه الخصوص، نحوه، لإبعاده عن إيران وإعادته إلى الحضن العربي، اللحظة الصعبة التي مر بها وتابع، بل ورفع من سوية قمعه واضطهاده وتمييزه واستئثاره بخيرات البلاد، حتى وجد نفسه عام 2011 في بؤرة عاصفة شعبية هزّت أركانه ووضعته أمام خيارين: الدخول في مسار تصالحي عبر تلبية مطالب المتظاهرين بالحرية والكرامة أو الاستمرار في الغي ومواصلة السياسات التي أدّت إلى انفجار التظاهرات. اختار الثانية وتحرّك على قاعدة “الأسد أو نحرق البلد”؛ فشهدت البلاد حربا مدمّرة شنها على الشعب الثائر باستخدام كل صنوف الأسلحة التي يمتلكها الجيش، بما في ذلك الغازات السامة، اختار اللجوء إلى استخدام القوة القاهرة والاستعانة بإيران وروسيا، والتضحية باستقلال البلاد وهدر ثرواتها لتمويل العدوان الغاشم. ولغ رئيس النظام البائد في دماء السوريين وتدمير البلاد، ليثبت لأسرته وحاضنته أنه ليس ضعيفا كما يتداولون. لعب النظام الإيراني دوراً كبيراً في تأجيج الصراع وعنفه أكثر بتقديم رواية شيعية عن “الملحمة الكبرى” التي تقع بين أنصار المهدي والسفياني، نسبة لأبي سفيان والد معاوية، الذي يخرج من الشام وتنتهي بانتصار أنصار المهدي وعودته.
أدّت الممارسات، الفردية والجماعية ضد أبناء الطائفة العلوية إلى انتشار الخوف بينهم، ما دفعهم إلى الانطواء والانزواء طلباً للسلامة
هبط سقوط النظام المفاجئ وتبخّر غطرسته وجبروته وفرار رئيسه وكبار قادته في أجهزة المخابرات والجيش ومحاسيبه من أصحاب الثروات المنهوبة يوم 8/12/2024 على صغار الضباط وضبّاط الصف والمجنّدين من أبناء الطائفة العلوية هبوط الصاعقة؛ فقد وجدوا أنفسهم من دون قائد أو موجه يرشدهم إلى التصرّف المناسب فتركوا أسلحتهم وزيهم الرسمي وعادوا إلى ذويهم في مدن الساحل وبلداته وقراه وحمص وحماة بانتظار ما ستأتي به الأيام؛ وهبط على الطائفة عامة بالذهول والاستسلام للأمر الواقع قبل أن تدهمهم الزوابع والعواصف: حل الجيش وأجهزة المخابرات، مئات آلاف، وفصل آلاف الموظفين والموظفات، تحوّلوا في لحظة إلى عاطلين من العمل بلا راتب تقاعدي أو تعويض مناسب عن فترة الخدمة التي ليس لهم مصدر دخل غيرها؛ تلاه دخول العسكريين وعناصر المخابرات في دوّامة تسوية أوضاعهم لدى مراكز تابعة للسلطة الجديدة والملاحقات والاعتقالات، وما تم خلالها من إهانات وشتائم مقذعة وإذلال مقيت. لم تعلن أرقام رسمية عن عدد المعتقلين، في حين يقول متحدثون باسم الطائفة إنهم بالآلاف، وبدأت عمليات الانتقام من أبناء الطائفة العاديين في محافظات حمص واللاذقية وطرطوس وريف حماة الغربي، قتل عشوائي وخطف نساء، باعتبار العلويين، كل العلويين، مسؤولين عن جرائم النظام البائد، قبل أن تتوّج مأساتهم بحملة عسكرية معزّزة بآلاف المتطوعين المدنيين، الفزعات، ردّاً على محاولة مجموعة كبيرة من عسكريي النظام البائد من أبناء الطائفة السيطرة يوم 6 مارس/ آذار 2025 على مواقع عسكرية في محافظتي اللاذقية وطرطوس ارتكبت فيها، الحملة، مجازر ذهب ضحيتها 1479 علويا من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال مع نهب البيوت وحرقها وحرق المزارع ونزوح الآلاف داخل سورية وخارجها.
أدّت هذه الممارسات، الفردية والجماعية إلى انتشار الخوف بين أبناء الطائفة، ما دفعهم إلى الانطواء والانزواء طلباً للسلامة.
غير أن المواجهات الدامية التي حصلت في جرمانا وأشرفية صحنايا بين السلطة الجديدة وأبناء طائفة الموحدين الدروز، وحملة السلطة على محافظة السويداء وما ترتب عليها من نتائج عسكرية، تراجع قوات السلطة تحت الضغط العسكري الصهيوني؛ وفرض سيطرة الشيخ حكمت الهجري وأنصاره على مركز المحافظة وتنظيم إدارة ذاتية فيها؛ وجمود اتفاق 10 مارس (2025) بين السلطة الجديدة وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) حول اندماج الأخيرة في الجيش السوري الوليد؛ وتواتر التوغلات العسكرية الصهيونية في الأراضي السورية وإقامة نقاط عسكرية ثابتة فيها، ودخول السلطة في حالة إرباك وضعف فتحت بابا أمام وجهاء الطائفة العلوية ومثقفيها لتحريك ملفها برفع الصوت والمطالبة بوقف الانتهاكات ضد الطائفة وبالإفراج عن المعتقلين، الذين لم يخضعوا لمحاكمة تحدد مصيرهم، بالإضافة إلى المطالبة بحماية دولية وبنظام لامركزي في سورية، تصدّر التحرّك رئيس المجلس الإسلامي العلوي الأعلى في سوريا والمهجر، الشيخ غزال غزال، الذي تواصل مع “قسد” وشارك عبر الفيديو في مؤتمر “وحدة الموقف” الذي عقدته الأخيرة في الحسكة يوم 8 أغسطس/ آب الماضي، ودعا يوم 25 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني) إلى التظاهر السلمي للضغط من أجل الإفراج عن المعتقلين وإعادة النساء المختطفات وإقامة حكم ذاتي؛ وقد استجيب لدعوته رغم وجود موقف سلبي منه شخصياً على خلفية تشيعه، وعمله مع جميل الأسد في جمعية المرتضى بالدعوة إلى التشيع بين السوريين ومن ضمنهم العلويون. وخرجت تظاهرات في عدة مدن وبلدات في الساحل وحمص وحماة، شكّلت أول مظاهرات واسعة النطاق تشهدها سورية منذ سقوط النظام البائد. في السياق دعا غزال إلى مقاطعة احتفالات السلطة بعيد التحرير وإلى إضراب عام خمسة أيام.
لم يكن تحرّك الشيخ غزال التحرك الوحيد لأبناء الطائفة، فقد نشرت وكالة رويترز تقريراً عن تحرّكات ذات طابع عسكري يقوم بها رئيس سابق للمخابرات السورية، اللواء كمال حسن، وابن خال الرئيس المخلوع الملياردير رامي مخلوف، كل على حدّة، عبر تمويل ضباط وعناصر من أبناء الطائفة وحشدهم للقيام بعمل عسكري للسيطرة على محافظات الساحل السوري، أشار تقرير رويترز إلى صغر المبالغ المالية المخصصة للأفراد من العسكريين السابقين التي يرسلها كمال حسن ورامي مخلوف، بين 20 و30 دولارا للعنصر، لكنها على صغرها تساعد أسرا طردت السلطة الجديدة معيليها من عملهم، وقطعت مصدر عيشها، على تأمين بعض احتياجاتها، والتسابق بينهما للسيطرة على 14 غرفة قيادة تحت الأرض شيدت في الساحل السوري من قبل النظام المخلوع في خطة احتياطية لمواجهة تطورات الصراع مع ثوار ثورة الحرية والكرامة. قال الأول إنه يسيطر على 12 ألف عسكري، بينما ادّعى الثاني أنه يسيطر على 54 ألفا. وفق ما نقلته رويترز.
لم تكن الطائفة العلوية، التي تشكل بين 10% و12% من سكان سورية، أي قرابة المليونين ونصف المليون نسمة، كتلة واحدة
لم تكن الطائفة العلوية، التي تشكل بين 10% و12% من سكان سورية، أي قرابة المليونين ونصف المليون نسمة، كتلة واحدة. كانت موزّعة الولاءات على أسس عشائرية ومناطقية، كما لم تكن في أغلبيتها مستفيدة من النظام البائد أو ملتحمة به قبل أن تدفعها ممارسات السلطة التي تعاملت معها متهمة ومسؤولة عن جرائم النظام البائد ومجازره، ونصّبت في مناطقها مسؤولين في الأمن العام والإدارات من خارجها يحملون صورة شديدة السلبية عنها، أقلها أنها حاضنة النظام البائد وأكثرها تطرّفاً أنها طائفة مرتدّة؛ ما وضعها، مع تجاهل مطالباتها بوقف القتل والإفراج عن المعتقلين وإعادة المخطوفات، في مواجهة سؤال الوجود ودفعها إلى السير خلف دعوات الشيخ غزال غزال، وهي التي لم تكن يوما تمتلك هيكلية دينية موحدة؛ فالمجلس الإسلامي العلوي الأعلى في سوريا والمهجر تأسس في فبراير/ شباط الماضي، لتوحيد الصف والموقف. وكان هذا التأسيس متوقعا في ضوء طبيعة السلطة السورية الجديدة، سلفية جهادية، وتشكيل السلطة مؤسسة للإفتاء من مشايخ السُنّة فقط.
لقد دفعت السلطة السورية الجديدة، إن بنظرة قيادتها إلى الطائفة العلوية أو بممارسات أجهزتها الأمنية وقوات شرطتها، الطائفة إلى التكتل والتحشّد والتنسيق مع مواقف معارضة للسلطة في شمال سورية وشرقيها وفي السويداء. لقد حولتهم من جماعة قانطة إلى جماعة متحفزة. لقد صنعت السلطة بنظرتها غير الموضوعية إلى الطائفة العلوية وتجاهلها لمطالبها لنفسها خصما جديدا لم تكن بحاجة إليه وهي تواجه خصوما كثرا ومشكلات تنوء تحتها الجبال. كانت قادرة على تلافي ذلك ببعض الحصافة، مساءلة مباشرة لمجرمي النظام البائد وتنفيذ موجبات عدالة انتقالية تمتص نزعة الانتقام. فالقتل والخطف والإفقار والإهمال والاحساس بخطر وجودي.. كل ذلك أدى، على الضد مما أرادت السلطة السورية الجديدة، إلى تكتل العلويين وتماسكهم والتفافهم حول أول داعية إلى الحشد والحركة، عسكريا كان أو شيخاً معمّماً، فكل دعوة إلى التكتل والحشد هي كالقشة بالنسبة لغريق.
تستدعي الحصافة ألا تترك السلطة الطائفة العلوية تعاني الخوف والعزلة، وألا تكتفي بحركة علاقات عامة كحماية التظاهرات (أخيرا) التي هدفت إلى تحسين صورة أجهزتها في الخارج، بل أن تقوم بخطوات حقيقية لطمأنتها بدءاً من حسم مصير المعتقلين من خلال محاكمات عادلة ونزيهة، وتحرير المخطوفات، والتعويض عن الخسائر التي لحقت بالمدنيين منهم خلال الحملة العسكرية، وتحسين الخدمات الصحية والتعليمية والكهرباء وصيانة البنية التحتية، المشافي والمدارس والطرق والجسور، وصولا إلى إعادة النظر في حقوق المطرودين من الخدمة في الجيش والمخابرات والوظائف المدنية، تعويضات مقطوعة أو رواتب تقاعدية وتوفير فرص عمل لهم خارج الجيش والمخابرات، تمهيدا لرأب الصدع واستعادة الثقة والدخول في حوار حول الحقوق والواجبات في ظل الدولة الجديدة.
المصدر: العربي الجديد






