
حدّدت الإدارة الأميركية سياستها الجديدة في الشرق الأوسط، في إطار استراتيجية الأمن القومي التي نشرها البيت الأبيض . جاء فيها “على مدى 50 عاماً على الأقل احتلت منطقة الشرق الأوسط أولوية السياسة الخارجية، مقارنة بباقي مناطق العالم، لأسباب واضحة، أنها مصدر الطاقة الأهم عالمياً ومسرح التنافس الرئيس بين القوى العظمى”، إضافة إلى أنها “ساحة الصراع التي هدّدت بالاتساع عالمياً حتى الوصول إلينا”. “إن عاملين على الأقل من هذه العوامل لم يعودا قائمين، بعد تنوّع إمدادات الطاقة بشكل كبير، وتحول التنافس الى صراع بين القوى الكبرى، بدلاً من القوتين العظميين”.
عندما تشير الوثيقة الى المدة منذ 50 عاماً تقريباً فهذا يعني العودة إلى العام 1975، الذي تلا حرب أكتوبر (1973) بين مصر وسورية من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، وتدخل الأميركيين بشخص وزير خارجيتهم هنري كيسنجر واستخدام ملك السعودية الراحل فيصل بن عبد العزيز سلاح النفط، ومنع تصديره إلى أميركا، وكانت إشارة إنذار كبيرة خطيرة، سيما بعد فشل كل زيارات كيسنجر المملكة ولقاءاته المتكرّرة مع الملك. ثم بعد توقيع اتفاقات فك الاشتباك بين مصر وسورية وإسرائيل، وبدأ كيسنجر التحضير لمرحلة جديدة من العلاقات ورسم مستقبلها. ولكن العنصر الأهم كان عنصر الطاقة.
كتبت عن هذا الأمر مراراً، سيما في كتابي “لبنان… الثمن الكبير للدور الصغير” مفنداً السياسة الأميركية التي اعتمدت آنذاك، وكيف قتل الملك فيصل ليكون “عبرة لمن يعتبر”، فلا يُقدم أحد من العرب على التجرؤ على خطوة مماثلة في وجه أميركا. وأشرت الى اهتمام كيسنجر بالنفط، وعقد مؤتمر خاص به، بعد أن بدأت دولته الاعتماد على النفط الصخري وتخزين الإنتاج. وأبرمت اتفاقات مع عدة دول منتجة، سيما العربية منها، بأسعار منخفضة جداً وطويلة الأجل. قامت الاستراتيجية النفطية آنذاك على: “النفط سلعة عالمية تدار عالمياً. هو ليس ملك القابعين عليه بل “ملك الحضارة”. لن نكون رهائن عند أحد، سنعيد أولئك البدو إلى خيامهم الأولى. سنستعيد كل دولار دفعته الشعوب والحضارة. ولن يبقى لديهم ما يعيشون عليه. وسوف يرهنون كل شيء. لقد بدأ المال يعود الى خزائنه الأولى”.
هذا ما قاله كيسنجر، وهذا ما أنجز على مدى عقود، حتى أعلنت عملياً الرؤية الجديدة اليوم المتعلقة بالأمن القومي. كل النفط بتصرف اميركا. تعدّدت مصادره، ولديها إنتاج، فلا قلق، واستمرار الابتزاز والضغط كفيل “باسترداد” الكثير الكثير من الأموال، كما حصل أخيراً، وما حصده ترامب من آلاف المليارات من الدولارات، ولا يزال يتطلع إلى هؤلاء الذين لديهم الكثير من “الكاش موني” ويريد منه أكثر.
تدرك أميركا أن عالم اليوم لم يعد كما كان. ولذلك أطلقت الاستراتيجية الجديدة للأمن القومي، وبعد تصدّيها للمشروع النووي الإيراني مباشرة
الأمر الثاني المهم في هذه الاستراتيجية أيضاً الإشارة إلى تحوّل الصراع بين القوى الكبرى، وليس القوتين العظميين، أي الاتحاد السوفييتي وأميركا، وخوفاً من تمدّده، جرى تركيب حركة المجاهدين واختراعها في أفغانستان، بعد دخول قوات السوفييت إليها، وكانت غلطة وسوء تقدير في ذلك الوقت. كان الهدف مواجهة “المد الشيوعي” (الفزّاعة آنذاك في الشرق الأوسط)، وفي ذلك خطر على أميركا ومصالحها، وعلى دول عربية وإسلامية. ثم صارت حركة طالبان التي تفرع منها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ومنه “تفرّعات” جديدة، حتى أصبحت، ومنذ سنوات، السمة الكبرى لتبرير الحروب ومواجهة الإرهاب، وبالتحديد كما سمّوه منذ فترة طويلة، بشراكة تامة مع اسرائيل الإرهاب الإسلامي. سقط الاتحاد السوفييتي. حققت أميركا ما تريد. وقال مستشار الأمن القومي بريجنسكي عام 1989 لمجلة نوفيل أوبسرفاتور الفرنسية، ردّاً على سؤال ما إذا كان نادماً، بعدما وصلت إليه حركة المجاهدين، فأجاب: “لست نادماً. ما يهمّنا كان سقوط الاتحاد السوفييتي وقد سقط”.
وبالتالي، بدأ منذ ذلك اليوم التخطيط كي لا تستمر الحرب بين القوتين العظميين. وعندما استعادت روسيا حضوراً ودوراً كانت الاستراتيجية الأميركية بالمرصاد أيضاً، وارتكبت روسيا أخطاء، وبدأ الأميركي يخطط للعب داخل الجمهوريات الإسلامية، وعلى وتر الانتماءات المذهبية أيضاً، الى أن وصلنا إلى الحرب في أوكرانيا والحصار المفروض على روسيا. ورغم تمدّد (وتنامي) الدور الصيني وموقع كوريا الشمالية وانفتاح ترامب عليها، والحوار المستمر مع الصين، والعقل البارد الذي تدير به القيادة الصينية مصالحها مع أميركا التي تتابع كل حضور وحركة ودور وتأثير صيني في أي موقع في العالم تكنولوجياً، ومن خلال صندوقها السيادي، تدرك أميركا أن عالم اليوم لم يعد كما كان. ولذلك أطلقت الاستراتيجية الجديدة للأمن القومي، وبعد تصدّيها للمشروع النووي الإيراني مباشرة، ورغم إعلانها أنها لا تريد تغيير النظام، فإنها انطلقت من أن الشرق الأوسط قد تغيّرت معايير اللعبة فيه، ولم يعد ثمة خشية من تمدّد قوى كبرى نحو استهداف المصالح الأميركية.
يجب أن تقرأ هذه الاستراتيجية بدقة وتمعّن ووضوح، لمعرفة كيفية التعاطي معها في إطار التفكير بمستقبل منطقتنا. وللبحث صلة حول إيران ودورها ودول المنطقة المعنية، بل التي أحيل إليها ملف التعاطي معها بوصفها قضية تعنيهم، ولم تعد أولوية أميركية، وحول فلسطين وسورية ولبنان.
المصدر: العربي الجديد






