حين اهتزّت المنطقة ولم تهدأ

سلام الكواكبي

منذ اللحظة التي خرج فيها مئات آلاف إلى الشوارع في شتاء 2010-2011، بدا واضحاً أن العالم العربي دخل مرحلة لن يعود منها كما كان. لم تكن تلك الهبّات الشعبية مجرّد انفجار غضب سياسي أو اقتصادي فحسب، بل أيضاً لحظة كشفت هشاشة المفاهيم التي كنّا نستخدمها لوصف الواقع، وفي مقدّمها مفهوم الثورة نفسه؛ إذ فجأة أصبح المصطلح عاجزاً عن الإحاطة بمسارات متناقضة، حيث انهارت مؤسّسات بعض الدول، ودول أخرى انزلقت نحو الحروب، وثالثة استعادت سلطويتها بقوة أشدّ مما كانت عليه. ومع ذلك، لم يكن ممكناً تجاهل أن تلك الاحتجاجات حرّكت شيئاً عميقاً في وعي المجتمعات، شيئاً يتعلق بفكرة التغيير الجذري وبإعادة تعريف العلاقة بين الفرد والدولة.
الإشكال الأكبر الذي أفرزته هذه المرحلة هو التوتر بين الثورة بوصفها شعاراً وجدانياً قادراً على تحريك الشارع والثورة مفهوماً يحتاج إلى أدوات دقيقة لتحليل ما يجري. حين يعلن الناس في الشارع أنّ ما يحدث ثورة، فهم لا يصفون الواقع فحسب، بل يصنعونه أيضاً. وهذا وحده يكفي لإعادة ترتيب موازين الشرعية في المجتمع. لكن الباحث أو المراقب لا يستطيع مجاراة اللغة الاحتفالية ذاتها، لأنه مضطر أن ينظر إلى المسارات الهادئة والممتدة التي تلي لحظة الانفجار الأولى، حيث تبدأ الحسابات الحقيقية والتي تطرح أسئلة حول من يمسك بالمؤسّسات؟ من يعيد بناء السلطة؟ ومن يحدد معنى التغيير؟
قد يكون أهم ما كشفته الثورات الكبرى في التاريخ، من الولايات المتحدة إلى فرنسا، أن الديمقراطية لا تولد بالضرورة من رحم الثورة، وأن الأفكار لا تعيش في الهواء، بل تتشكّل داخل صراعات ملموسة. نشأت التجربة الأميركية مثلاً في مجتمع سبق الدولة نفسها، فكانت الحرّية الفردية حجر الأساس. أما فرنسا فاضطرّت إلى مجابهة إرث اجتماعي هرمي ضخم، فخرجت منها ديمقراطية متوترة احتاجت إلى سلطة مركزية قوية. كلاهما يذكّرنا بأن الأفكار السياسية ليست وصايا سماوية، وإنما نتائج لضرورات اجتماعية متضاربة.
الثورة ليست حدثاً خاطفاً، بل مسار طويل مليء بالانتكاسات والتحولات
حين ننظر إلى المنطقة العربية، نكتشف عالماً آخر، فطوال عقود، كانت فكرة التغيير الجذري مرتبطة بالدولة القوية، لا بالمجتمع. الانقلابات العسكرية قُدّمت بوصفها ثورات، والسلطوية رُوّجت باعتبارها الضامن الوحيد لوحدة الأمة. كان يُنظر إلى التعدّد الاجتماعي أنه تهديد يجب احتواؤه، لا طاقة سياسية يجب الاعتراف بها. فجاءت ثورات 2011 لتكسر هذا القالب، على الأقل في لحظتها الأولى، حين امتزجت مطالب الحرية بالكرامة وبالحلم بمؤسسات خاضعة للمساءلة.
لكن هذا الامتزاج لم يصمد كثيراً. وعلى الرغم من الحيوية التي أطلقتها شبكات التواصل والمجتمعات الشبابية الناشئة، استعاد النظام العربي التقليدي أنفاسه بسرعة. في مصر، مثلاً، نجحت الدولة العميقة في إعادة فرض منطقها عبر خطاب الاستقرار. ودخلت تونس في دورات متتالية من التجاذب أنهكت التجربة الديمقراطية الوليدة، وصولاً الى إعادة إنتاج الاستبداد الشعبوي. ومع ذلك، ظل شيء ما عالقاً في الذاكرة الجماعية متمثّلاً بالشعور بأن الباب فُتح ولن يُغلق بالكامل.
قد تكون الثورات العربية مرحلةً انتقاليةً لم تكتمل، لكنها بالتأكيد أعادت طرح السؤال الأكبر: من يملك حق تعريف التغيير؟
ولا يمكن الحديث عن الثورات العربية من دون التوقف عند الثورة السورية، التي تحوّلت من لحظة أمل مدني سلمي إلى واحدة من أكثر الكوارث السياسية والإنسانية في القرن الحادي والعشرين. فحين خرج السوريون مطالبين بالحرية، كانوا يعيدون تعريف علاقتهم بالدولة، ويعلنون أن زمن الخوف التقليدي انتهى. لكن الردّ العنيف للنظام، والتدخّلات الإقليمية والدولية المتشابكة، حوّلت البلاد إلى ساحة حرب مفتوحة أنهكت المجتمع ومزّقت جغرافيته، وأدّت إلى واحدةٍ من أكبر موجات اللجوء في التاريخ الحديث. ومع تعقّد الصراع، تراجعت المطالب الأولى أمام منطق البقاء، وتحوّلت الثورة إلى طبقاتٍ متشابكةٍ من الصراع المسلح والسياسة الدولية، وصولاً إلى سقوط نظام عائلة الأسد. بينما بقي السؤال الأساسي بلا إجابة: كيف يمكن إعادة بناء مجتمع كان يوماً ما قادراً على النزول إلى الشارع متّحداً حول فكرة الحرية؟ وما تركته الثورة السورية من نتائج لا يقتصر على الداخل فحسب، بل يعيد رسم موازين القوى في المنطقة، ويكشف كيف يمكن للثورة، حين تُخنق، أن تتحوّل إلى زلزال طويل الأمد يعيد تشكيل الخريطة السياسية الإقليمية.
ورغم تعثّر بعض المسارات، وحتى فشل بعضها الآخر، تبقى الفكرة الأساسية أن الثورة ليست حدثاً خاطفاً، بل مسار طويل مليء بالانتكاسات والتحولات. ما حدث في العالم العربي لم يكن مجرّد مطالبة بإسقاط أنظمة، بل كان تمريناً جماعياً على إعادة التفكير في الدولة والمجتمع والسلطة. صحيحٌ أن الطريق انسدّ في أكثر من بلد، لكن الأهم ظهور جيل جديد أدرك أن السياسة ليست محصورة في النخب، وأن المجال العام يمكن انتزاعه حين يقرر الناس ذلك.
في النهاية، قد تكون الثورات العربية مرحلةً انتقاليةً لم تكتمل، لكنها بالتأكيد أعادت طرح السؤال الأكبر: من يملك حق تعريف التغيير؟ الدولة أم المجتمع؟ الشارع أم المؤسّسات؟ اللحظة الثورية أم الزمن الطويل؟ والإجابة، مهما تأخّرت، لن تشبه ما كان قبل 2011، لأن الوعي الذي ولد آنذاك لن يعود إلى النوم، حتى لو بدا المشهد اليوم ساكناً.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى