
في واحدة من قصائده القليلة، يقول الإمام الشافعي “وعينُ الرِضا عن كلِّ عيبٍ كَليلةٌ.. ولكنَّ عينَ السُخطِ تُبدي المَساويا”. البعض يتّهم من يرى أي بارقة أمل في سوريا بأنه إنما يفعل ذلك لأسباب مصلحية وغالباً طائفية. وعلى النقيض، يجدُ البعض أن من ينتقد أية نقيصة لدى الحكومة الجديدة، خائناً كامل المواصفات.
يوم الثلاثاء 25 من تشرين الثاني/ نوفمبر، قضيت يوماً ساخناً على وسائل التواصل الاجتماعي ومع ذلك لم أُدوّن أي حرف. درّبت أعصابي خلال السنوات الماضية على نوع من البرود في لحظات الهيجان العام، وكعادتي لم أنشر أو أعلّق عند أحد. فمنذ شهور وطّدتُ نفسي ألا أدخل في سجالات على هذا الفضاء السامّ. أقول يوماً ساخناً وسوف أضيف هنا أنه نموذجياً، بمعنى أنه يوم قابل للدرس والتأمّل. ففي المظاهرات التي شاركت بها أعداد معقولة من أبناء الطائفة العلوية في الساحل وحمص وحماة، استجابةً لدعوات على وسائل التواصل، ومنها الدعوة الأهم لرئيس المجلس الإسلامي العلوي الشيخ غزال غزال، كانت هناك بعض المطالب المحقة للمتظاهرين، مع مطالب أخرى شطّت بعيداً عند آخرين.
المانع من نقد بعض الشعارات والمطالب، ومن استنكار دخول مظاهرة مضادة في الاتجاه الآخر؟ المسألة ليست ماءً وزيتاً لا يجتمعان.
الكلُّ على وسائل التواصل، مع استثناءات نادرة، كان ينقل فقط الصور والمقاطع المصورة التي تؤيد انحيازه، متجاوزاً الصور المخالفة، بعماءٍ تام، وكأنها لم تكن. كلٌّ ينقل الهتافات الصادرة عن الجموع التي ستؤيد فكرته ووجهة نظره وتموضعه، متفادياً الهتافات التي تدحض تلك الفكرة ووجهة النظر. الأدهى أنه كانت هناك حالة تشبه الاستجداء لصور يريدها البعض بشدّة، كأن تكون لقتيلٍ على الأرض أو جريح على الأقل. بل كان هناك من ادّعى أنه تمَّ إطلاق الرصاص الحي على صدور المتظاهرين مما أدى إلى وقوع قتلى وجرحى، ليتبين لاحقاً أن هذا لم يحدث. رأيت مقطعاً مصوراً ليلاً، يعلق صاحبه أنه بمواجهة المظاهرات النهارية، فإن شباناً يكسرون واجهات المحلات في اللاذقية. دققت في المقطع، وكانت الصور لشبان يركضون من دون أي فعل تكسير (ربما الأمر حصل فعلاً لكن خارج تلك الصور).
كانت لافتة صور رجال الأمن العام وهم يحمون تلك المظاهرات، بما يؤكد أن هناك قراراً مركزياً صارماً بإظهار تلك الصورة. وأتت تعليقات “عين الرضا” لتشيد بالدولة الجديدة، الخالية من الشوائب، فها هي تحمي مظاهرات العلويين المناوئة للسلطة. في حين كانت “عين السخط” ترى الأمر طبيعياً، ولا يحتاج للحديث عنه فذلك من واجب أي دولة، وكأنما الأمر جرى على هذا النحو في سوريا خلال العقود الماضية إبّان حكم الأسدَين. حالة الطرفين، للأسف، يمكن أن تصنف على أنها عورٌ أخلاقي عميق، يتحول أحياناً الى هيستيريا تقترب من الكوميديا. وللعلم ومن باب الطرافة، لدي أصدقاء سامّين وهيستيريين من الطرفين، ومع ذلك أحافظ عليهم من باب الحفاظ على النوع، وإلا فكيف سأرى اللوحة كاملة؟
ما الذي كان يمنع هؤلاء من الإشادة بالمظاهرة والمطالب المحقة من جهة، ومن الجهة الأخرى تثمين حماية أفراد الأمن العام للمتظاهرين في سابقة سورية غير معروفة؟ وما
المانع من نقد بعض الشعارات والمطالب، ومن استنكار دخول مظاهرة مضادة في الاتجاه الآخر؟ المسألة ليست ماءً وزيتاً لا يجتمعان. كلنا يعلم أن أفراد عناصر الأمن العام ليسوا ملائكة، فمنهم من ارتكب الجرائم والانتهاكات بالأمس القريب، وربما ما زال، لكن من الواضح أنه كانت لديهم في ذاك اليوم تعليمات مشدّدة، وعلى الأرجح تدريبات لضبط ردات الفعل والتعامل الإيجابي، وهذا أمر جيد ويجب أن نثني عليه ونطالب باستمراره، عبر تكثيف الدورات والتدريبات لأفراد الشرطة على الحيادية والحفاظ على مبادئ حقوق الإنسان، ليكون هناك إثباتٌ يوميّ على الأرض، اليوم وفي المستقبل، أننا مقدمون على مرحلة مختلفة جذرياً. وبالمقابل هؤلاء حموا يومها مواطنين سوريين أولاً، حتى لمن لم يعد يرى نفسه كذلك. هاتان هما العينان اللتان لم يوردهما الشافعي في بيته الشعري الشهير. عينان لا تعيش إحداهما في فسطاطٍ بمواجهة فسطاط العين الأخرى.
الترحيب بمنظمات حقوقية دولية، كلها مؤشرات على حدوث تغيير في سوريا.. كل هذه الأمور مؤشرات جيدة جداً، لكنها ليست عميقة جداً”. ولكن لماذا أورِدُ هذا الاقتباس؟ أفعل ذلك لأني عبره، أريد القول إن تلك السيدة كانت تمتلك عينان سليمتان، لا كليلتان ولا ساخطتان.
رغم كل ما يجري، ما زالت لديَّ قناعة تامة أن هؤلاء الذين يعيشون هذه السلبية المُصمتَة، انتصروا مثل جميع السوريين تماماً فجر يوم 8 من ديسمبر 2024، لكنهم لم يدركوا ذلك حتى اليوم. ومن الجهة المقابلة فإن من لا يرى سلبيات المرحلة الحالية، والتشوهات التي تعتريها، هو متضرر بما يحدث. وبموقفه المتعامي، يأكلُ من رصيد مستقبل البلد، من دون أن يعي ذلك. كلا الجانبين، المتمترسين في كلا الطرفين الحادّين لهذا الاستقطاب، لا يختلفان بالمساهمة في إعاقة مشروع بناء الدولة. دولة، يريدها عموم السوريين، تتمتع بالحد الأدنى من مقومات الدول الطبيعية. حيث هناك أخطاء وجرائم وهناك إنجازات.
المشكلة في عين السخط وعين الرضا أنهما لا تقفان عند حدود الموقف الأخلاقي أو المزاجي فحسب، بل تتحوّلان، من حيث لا يشعر أصحابهما، إلى موقف سياسي مُعطِّل. فالدول الخارجة من نزاعات طويلة لا تُبنى عبر فرط التفاؤل ولا عبر فرط التشاؤم، إنما تحتاج لبذل الجهود بهدف تشكيل قدرة جماعية على رؤية الواقع كما هو، لا كما نرغب أو نخشى أن يكون.
من البدهي أن أية سلطة تحتاج إلى رقابة نقدية صارمة تكبح انزلاقها. لكنها تستحق وتحتاج بالقدر نفسه إلى اعتراف منصف بما تحققه، على الأقل تشجيعاً على استكمال ما يحتاج إلى إصلاح. والأهم أن القدرة على إنتاج رأي عام غير مُستقطَب بحدّة، واحد من الشروط التي تحتاجها سوريا اليوم من أجل نجاح العدالة الانتقالية وإعادة بناء الثقة بين المجتمعات الأهلية، ومن ثمَّ بين الدولة والمجتمع. ولهذا فإن الإصرار على النظر بعين واحدة، راضية أو ساخطة، ليس مجرد خطأ في التقدير، بقدر ما هو إسهام مباشر ومؤذٍ في إضعاف إمكانية نشوء دولة طبيعية في سوريا للمرة الأولى منذ عقود.
في تصريح “أغنيس كالامارد” الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية، بعد زيارتها لدمشق قبل نحو أسبوعين، والزيارة بحد ذاتها سابقة تاريخية، قالت “إن السلطات الجديدة في سوريا اتخذت خطوات لإظهار التزامها بالإصلاح والعدالة الانتقالية والمصالحة، إلا أن الديمقراطية ما تزال غائبة.. إن عرض خطط الإصلاح وتشكيل لجان للعدالة الانتقالية،
والترحيب بمنظمات حقوقية دولية، كلها مؤشرات على حدوث تغيير في سوريا.. كل هذه الأمور مؤشرات جيدة جداً، لكنها ليست عميقة جداً”. ولكن لماذا أورِدُ هذا الاقتباس؟ أفعل ذلك لأني عبره، أريد القول إن تلك السيدة كانت تمتلك عينين سليمتين، لا كليلتين ولا ساخطتين.
مع ذلك، وعلى الرغم من أنها رئيسة “Amnesty” أعرق منظمة تهتم بحقوق الإنسان في العالم. حتماً سوف نجد من كلا الطرفين، خصوصاً أولئك الذين اعتادوا “الأستذة الفارغة”، منْ سيُكذّب ما ورد في تصريحها، وسيقبل بشقٍ من كلامها، وربما يستشهد به، وسيغفل ويتعامى عن الشقِّ الآخر بالمطلق، مع أن النظر بعينين سليمتين ليس موقفاً وسطيّاً باهتاً ولا ميوعة سياسية، إنما هو الشرط اللازم للمساعدة في بناء الدولة.
الدول التي نجحت في العبور من حروب أهلية، لم تفعل ذلك لأن شعوبها أكثر طيبة، هي إنما فعلت لأنها امتلكت شجاعة مواجهة الحقائق كما هي، لا كما يرغب كل فريق أن يراها. أسأل نفسي أحياناً، هل ما يحدث لدينا طبيعي؟ وجوابي على الدوام، نعم، فبلدنا يحاول أن يحبو باتجاه التعافي. ولذا ما زال لدينا النوعان المتخاصمان من عيني قصيدة الشافعي. عين الرضا المزيّف الراضية بكل شيء، وعين السخط المُتَخيَّل الساخطة من كل شيء، وبينهما الغائبة على الدوام هي سوريتنا الجريحة والمكسورة.
المصدر: تلفزيون سوريا






