الثورة الرقمية، وأزمات الأحزاب السياسية الغربية

نبيل عبد الفتاح

الأحزاب السياسية فى شمال العالم تواجه أزمات كبرى، مع ثورة وسائل التواصل الاجتماعى، والذكاء الاصطناعى التوليدي وتطوراته المتسارعة، وذلك على الرغم من الأدوار التاريخية التى نهضت بها فى تحولات النظم السياسية الديموقراطية التمثيلية، وفى تشكلات الحداثة السياسية والقانونية، ومعها النقابات العمالية والمهنية، وتشكل المجتمع المدنى. لعبت الأحزاب، ومعها النقابات وظائف تمثيل مصالح الطبقات الاجتماعية المختلفة، وفى تكوين وتكريس الثقافة السياسية – ضمن مصادر أخرى -، وفى التعبير السياسى عن قواعدها الاجتماعية. مع تطورات الرأسمالية الغربية، تأثرت الأحزاب السياسية الكبرى فى أوروبا والولايات المتحدة، واليابان بمراكز الثقل الاقتصادى، من حيث تمويل المنافسات الانتخابية البرلمانية والبرلماسية والرئاسية، والأهم على السياسات والبرامج التشريعية، والاقتصادية لهذه الأحزاب أو الائتلافات فى الحكم . تزايد هذا التأثير مع الشركات الكونية النيوليبرالية، التى بات دورها بارزا ومؤثراً فيما وراء السياسات التشريعية، والاقتصادية خاصة مع تراجع دولة الرفاهة ، وهو ما بات مؤشراً على ضعف متنامً للأحزاب السياسية الكبرى، وخاصة ما بعد الحرب الباردة، وأنماط القيادات، والزعامات السياسية الحزبية التى أصبح بعضها خاضعاً لتأثيرات سلطة المصارف والشركات الكونية الضخمة، فى ظل عالم ما بعد السرديات الإيديولوجية الكبرى الذى ساد ما قبل وما بعد الحرب العالمية الثانية، وأثناء الحرب الباردة ، والصراع الثنائى القطبية بين الكتلتين السوفيتية والماركسية، والغربية . كانت الصراعات محتدمة ما بين الأحزاب الليبرالية التعددية فى أوروبا، والولايات المتحدة وبين إيديولوجيا نظام الحزب الواحد الشيوعى. كانت الإيديولوجيا أحد محركات أدوار الأحزاب السياسية، وبرامجها السياسية والاجتماعية، وسردياتها الشعاراتية، بما فيها بعض من خصوصيات وتجديد الخطابات السياسية والفلسفية للماركسية الأوروبية، وأحزابها فى إيطاليا، وفرنسا.
فى عقدى السبعينيات، والثمانينيات، بدأت بعض ملامح ومؤشرات التغير مع ما بعد الحداثة الفلسفية، والسياسية تظهر فى الحياة السياسية الفرنسية، ثم الإيطالية، مع تلاعب فرنسوا ميتران مع الحزب الشيوعى، ويسار الحزب الاشتراكى الفرنسى الذى يقوده، وتهميشه، والتحول نحو الوسط. فى ظل هذه المناورات تغير الحزب، ومعه بعض الأحزاب الأخرى علي نحو ما أطلق عليه آنذاك التحول إلى الإيديولوجيا الناعمة التى كانت ترتكز على أجيال حقوق الإنسان، والحركة النسوية ، وبعض الإصلاحات الاجتماعية، والتحول نحو النيوليبرالية الاقتصادية، خاصة فى بريطانيا مع السياسات التاتشرية، ورونالد ريجان فى الولايات المتحدة الأمريكية . ساهم هذا التغير السياسى والاقتصادى فى تراجع الحدة الإيديولوجية فى الخطابات والبرامج الحزبية. الأهم التحولات نحو ثقافة الاستهلاك المكثف والمفرط، التي كرست مفهوم حرية الاستهلاك، وتشكل ما أطلق عليه موريزو لازوراتو صناعة الإنسان المدين المثقل بالمديونية للمصارف الكبرى، بكل ما يشكله ذلك من قيود على حرية الفرد وأن الدين يمثل بنية سياسية وان العلاقة بين الدائن / المصارف والمدين هي أساس العلاقة الاجتماعية في المجتمعات الغربية وتكوين ذاتية مدينة ومرتهنة ومعاقة ومحمولة علي الإحساس بالذنب ، ومن ثم ما سبق أن أطلقنا عليه أن حرية الاستهلاك باتت أم الحريات فى ظل مجتمع الاستعراض –وفق جى ديبور- وتحول كل ما هو طبيعى إلى تمثيل، واستعراضات، وفق تشكيل ثقافة السوق الاستهلاكى، وثورة الإعلانات والإعلام وتشكيلها وصناعتها للرغبات الإنسانية نحوم أنماط متعددة، ومتغيرة من السلع والخدمات، ولهاثُ الأفراد وراء إشباعها.
من هنا ظهرت حالة أزمة القابلية للمحكومية لاسيما السياسية ، أى مدى قابلية الفرد للانخراط فى الأحزاب، والمؤسسات السياسية، وفى آليات النظام الليبرالى، وذلك على نحو جزئى من حيث اهتماماته بالمشاركة فى الأحزاب، أو فى الانتخابات العامة، والمحلية، وهى ظاهرة تنامت مع تغول النيوليبرالية، وفى ظل أحزاب وقادة ما بعد الحرب الباردة، ونهاية السرديات الإيديولوجية الكبرى ووهجها السياسى ما بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة مع اليسار الأوروبى، وبعض تجديداته الفلسفية والإيديولوجية فى إطار الفلسفة الماركسية.
التغيرات الجيلية فى عالم ما بعد السرديات الكبرى، ساهمت فى ظهور أنماط جديدة من الزعامات والقادة الحزبيين تفتقر إلى الرأسمال السياسى الخبراتي الذى كان يحوزه قادة الأحزاب الكبرى أثناء الحرب الباردة، سواء على مستوى خبرات السياسات الدولية، وصراعاتها، ومفاوضاتها، أو على صعيد الخبرات السياسية الداخلية.
كان قادة الأحزاب، والحكومات أثناء الحرب الباردة يعتمدون على خبراتهم، ومعهم الخبراء فى كافة المجالات السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، والاجتماعية، فى ظل صراعات ضارية داخليا، وخارجيا لاسيما فى الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية . داخليا كافة الصراعات الحزبية تعتمد على سياسات وبرامج حزبية مدروسة على الرغم من الأقنعة الإيديولوجية الحاملة لها فى ظل الصراعات والمنافسات الاجتماعية والطبقية، خاصة الأدوار المتنامية للنقابات العمالية، والمهنية، والإضرابات والتظاهرات في سياق دولة الرفاهة .
ساهمت أدوار منظمات المجتمع المدني ، والحركات النسوية، والحركات الثقافية والفلسفية فى حيوية الحياة السياسية والمجال العام الحر، كان قادة الأحزاب السياسية، يتأثرون بهذه الحيوية التى أثرت تجاربهم السياسية، ومن ثم ظهرت بعض الشخصيات الرئاسية، والحكومية اللامعة، لاسيما مع ثورة وسائل الإعلام وسلطة الصور الفوتوغرافية، والمرئية مع التلفاز.
نهاية جيل الحرب الباردة، وتوارى بعضهم بالوفاة والشيخوخة، فتح الباب أمام أجيال ثورة وحرية الاستهلاك، وسطوة المصارف، والشركات الكونية الكبرى لاسيما مع الثورة الرقمية، وتأثيراتها السياسية، وتحول بعض الأجيال الجديدة من أجيال (y)، و(z)، وآلفا إلى الحياة الرقمية المفتوحة على حريات بلا حدود –رغم رقابات الشركات الرقمية الكونية، وأجهزة الدول الاستخباراتية والأمنية والعسكرية والرقابات الفردية المضادة واختراقاتها للأنظمة وعملها عبر مواقع رقمية خاصة ولغة مختلفة -، وتشكل العقل الرقمى، والحساسيات السياسية الجديدة والمختلفة، ومن ثم أثر ذلك على علاقة جيلى (زد)، وآلفا، بالأحزاب السياسية، ولامبالاة بعضهم بالانخراط فى الحياة الحزبية، والخضوع للهياكل القيادية، وأفكارها وقراراتها التنظيمية ، وتحولهم إلى برامج مثل ديسكورد في نيبال والمغرب من جيل Z / 212 في المغرب ، والتعبير الحر والنقدى المباشر عبر وسائل التواصل الاجتماعى، والأهم الأثر الذى يحدثه هذا التعبير السياسى والاجتماعى، فى بناء تشبيكات رقمية للتعبئة السياسية والاجتماعية المعبرة عن آراءها، ومصالحا السياسية، دونما انتظار للأطر الزمنية للآليات الانتخابية العامة والمحلية، من ثم ساهمت الثورة الرقمية فى تنشيط فعاليات الأفراد والجماعات، والحركة من الحياة الرقمية إلى الحياة السياسية الفعلية، وهو ما ظهر بوضوح فى حركة السترات الصفراء للطبقة الوسطى الفرنسية إزاء سياسات ماكرون وحكومته، وارتفاع أسعار وقود السياسات، وغيرها من المطالب الاجتماعية، وفى رفع سن الإحالة إلى التقاعد. من ثم لم تعد الأجيال الرقمية فى عصر السرعة الفائقة فى السياسة، والاقتصاد، والتكنولوجيا، والذكاء الاصطناعى التوليدى فى حاجة إلى الانخراط فى الحياة الحزبية، وإتباع قادة حزبين لايهم غالبهم سوى النجاح في الانتخابات العامة والمحلية، وصولاً إلى تشكيل الحكومات، أو رئاسة الجمهورية، أو البلديات!
أثرت الثورة الرقمية، وخطابات المنشورات والتغريدات والفيديوهات الطلقة والوجيزة فى إظهار هشاشة واستعراضية بعض القيادات الحزبية فى الحكم، والمعارضة، من خلال هيمنة سلطة الصورة، وتحولها إلى أداة للتأثير على بعض اتجاهات الرأى العام فى كل بلد، إلا أنها كشفت أيضا أن سياسة الصور الرقمية والفيديوهات الوجيزة عن تحول بعض الفعل السياسى عبر الصورة، دونما أحداث تغيرات فعلية فى الواقع الاقتصادى والاجتماعى للطبقات الوسطى، والعمال، والفلاحين، فى ظل هيمنة النيوليبرالية الرأسمالية.
بعض السياسيين الأوروبيين يستخدمون الذكاء الاصطناعى التوليدى، فى درس بعض القرارات السياسية والاقتصادية، في محاولة لاستيعاب التحولات الجديدة إلا أن غالبهم من أجيال ما قبل جيل (y)، ومن ثم لا يتجاوبون جزئيا مع جيل زد، وآلفا، ومن ثم تتزايد الفجوات بينهم، وبين الأجيال الرقمية، وأنماط تفكيرها واهتماماتها ومصالحها، ومن ثم ستتضاعف هشاشة الأحزاب السياسية التى تشكلت فى العقدين الأول، والثانى للألفية الجديدة، خاصة بعد تراجع الأحزاب التاريخية الأوروبية ما بعد الحرب العالمية الثانية . بعض علامات التغير فى التعبئة السياسية خارج الأحزاب السياسية فى جنوب العالم، ظهرت مع جيل y، وفى بنغلاديش عام 2024، وفى نيبال، وإندونيسيا، والفلبين وتيمور الشرقية وجزر المالديف والمكسيك، ومدغشقر، والمغرب.
تظاهرات جيل Z ) ) المرجح إنها ستتنامي، ومن خارج الأطر الحزبية، والمؤسسات السياسية فى النظم الديموقراطية التمثيلية فى أوروبا، وفى الولايات المتحدة على نحو ما ظهر فى تظاهرات جامعات القمة ، وغيرها في أوروبا وأستراليا ضد الإبادة الجماعية الإسرائيلية للمدنيين والأطفال والنساء والشيوخ فى قطاع غزة، والضفة الغربية، وذلك مع بعض المنظمات العاملة فى مجال حقوق الإنسان، والاتجاه الأخلاقى لدى بعض الأفراد والمجموعات والمنظمات المدنية والسياسيين والفنانين ، من خلال وسائل التواصل الاجتماعى.
كل المؤشرات فى عالم السرعة الفائقة، والذكاء الاصطناعى التوليدي ، والثورة الاتصالية الرقمية، تشير إلى تراجع أدوار ووظائف الأحزاب السياسية، فى الديموقراطيات التمثيلية الغربية، وقادة أحزاب ما بعد الحرب الباردة، فى عالم مختلف.

المصدر: الأهرام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى