جدل الهوية والمواطنة في سوريا الجديدة

عبد الله تركماني

بدا جدل الهوية والمواطنة واضحاً يوم الجمعة الماضية في الذكرى الأولى لعملية “ردع العدوان”، فقد انقسم السوريون إلى شارعين متضادين، مما يفرض علينا اجتراح حلول فكرية وسياسية ناجعة لهذه الإشكالية.
ونقطة البدء تكمن في محاولة استكشاف كيفية المواءمة بين الهوية الوطنية السورية الجامعة والهويات الفرعية في بلد متعدد المكوّنات الثقافية والاجتماعية، أي كيف يمكن أن تكون العلاقة بين الهويات الفرعية المختلفة في إطار الهوية الوطنية الجامعة؟ أهي علاقة “مغالبة” تحت مبررات “الأكثرية والأقلية”، أم ينبغي أن تكون على أساس المساواة والشراكة الوطنية ومبادئ الحق والعدل واحترام حقوق الإنسان؟
مع العلم أنّ سيرورة الهوية تحررها من القيود البدائية في اتجاه التواصل مع الآخر، وبقدر ما أنّ هذه السيرورة للهوية تعزز الفردانية فإنها، في المقابل، لا تلغي الوعي الجمعي المتمثل في وجود قيم مشتركة بين السوريين، مما يدفع باتجاه البناء والتكامل والاندماج الاجتماعي الوطني. ومن المعوّقات يمكن أن نلاحظ محاولات الأنظمة التسلطية أن تسم المجتمع بسمة واحدة، حيث تحوّله إلى “جمهور مصفق”، كما ظهر في سوريا طوال عهد آل الأسد، وأيضاً منذ 8 كانون الأول/ديسمبر، وخلق وعي جديد يتماهى مع أيديولوجية النخبة الحاكمة واستراتيجيتها على المدى البعيد، بما يؤدي إلى “الاستلاب الاجتماعي”، فقد وصل بعض السوريين إلى حالة من الفعل المنساق بدلالات الشعارات والرموز والصور التي تهيمن على فضاءاتهم، والتي حوّلها النظام التسلطي، عبر آلته الدعائية والخطابية، إلى حالة من الأجندة التي تختزل الذاكرة الجماعية الوطنية برؤية “أخوة المنهج السلفي”. مما جعل الهوية الوطنية الجامعة دوغمائيات بأطر مقدسة مغلقة، تخالف حقيقة حرية الإرادة، وتجعل من الآخر عدواً، بما يؤجج الصراعات الدينية والمذهبية والقومية، التي يمكن أن تؤدي إلى تفكك المجتمع، إذ عندما يقود التطلع إلى التفاعل مع الآخرين باسم العلاقة مع المقدس، أي بحكم قيمة سلبية مسبقة ضد هذا الآخر.
أزمة الهوية السورية ناتجة عن غياب مشروع الدولة الوطنية الحديثة، إضافة إلى الانهيار الشامل في أنساق المجتمع السوري.
في حين أنّ الدولة الوطنية الحديثة تقوم على ضمان الحقوق والحريات والهويات والفرص لكل الجماعات المكوّنة للمجتمع، من دون الحاجة إلى الاستيعاب القسري، من خلال مشاركة الجميع في صنع القرار، أي صيغة إدارة تقوم على قاعدة عريضة، تحتوي داخلها كل المكوّنات المجتمعية، التي يحظى كل مكوّن منها بنصيب في المشاركة بالإدارة، بالطبع استناداً إلى الكفاءة والقدرات وليس إلى المحاصصات المعطلة للجدوى.
ويبدو أنّ الاحتواء اللامركزي، كإسلوب مخالف كلياً لأسلوب الهيمنة المركزية، يخلق إمكانية توازن جديد بين الدولة والمجتمع، يقوم على مبدأ الحوار والجمع بين وحدة الهوية الوطنية واستقلالية إدارة موسّعة، تقدّم مجالاً واسعاً لتقاسم الإدارة والثروات والفرص، بما يساعد على الحدِّ من النزعات الانفصالية، ويملأ فراغ المطالب الحقوقية، عبر حماية اللغة والثقافة، في سياق عملية تكامل وطني. أي أنّ الدولة اللامركزية، إدارياً وليس سياسياً، جغرافياً وليس قومياً، تنطوي على فوائد عديدة: تغليب المصلحة الوطنية العامة على مصالح الهويات الفرعية، وتفسح في المجال لترسيخ وجود دولة مدنية تصون حقوق جميع مكوّناتها، وإنهاء الثقافة السياسية السائدة لصالح مفاهيم الحداثة السياسية، وترسيخ العلاقات التعاقدية المعبّر عنها بـ”العقد الاجتماعي”. ولعلَّ هذا التوجه يساعدنا على التخلص من الثقافة التي تزعم سموّها وطهوريتها المطلقة، كخطاب استعلائي ضد الثقافات والهويات الأخرى، يؤدي إلى تأجيج مشاعر الكراهية والإقصاء لمكوّنات الهويات الفرعية.
إنّ كثيراً من النزاعات والأعمال الوحشية تتغذى على وهم هوية متفردة لا اختيار فيها، إذ عبرها تنشأ “الهويات القاتلة”، مجسَّدة في فن الكراهية، الذي يأخذ شكل إثارة القوى المتطرفة لهوية ربانية مزعومة السيادة والهيمنة، تحجب باقي الهويات.
ولا شك أنّ أزمة الهوية السورية ناتجة عن غياب مشروع الدولة الوطنية الحديثة، إضافة إلى الانهيار الشامل في أنساق المجتمع السوري، حيث الانقسام الهوياتي يتفاقم بشكل عميق، وهشاشة مفهوم الوحدة الوطنية التي ما زالت تُعدّ من المصطلحات التي تجمع بين السوريين على الصعيد النظري، إلا أنها على الصعيد العملي مجرد تعبير رغبوي، يُستخدم في إطار المجاملات الخالية من مضمون عملي، وتكون عادة وسيلة للتغطية على ظاهرة التهرّب من الاستحقاقات، أو التركيز على الولاءات ما قبل الوطنية. ولا شك أنّ حالتنا الموصوفة أعلاه رسّخها نظام آل الأسد، من خلال صهر جميع أفراد المجتمع السوري في بوتقة واحدة، وإعادة تشكيلهم على أساس الولاء المطلق للوطن المختزَل برمز سلطة الاستبداد “سورية الأسد أو لا أحد”. وكذلك التركيز على الدعاية العقائدية، بل التلقين العقائدي منذ الصغر، وخلق عالم وهمي مهيمن وبرّاق ومنسجم مع أيديولوجية سلطة الاستبداد. والخشية أن تكرر قيادة المرحلة الانتقالية التوجهات نفسها، من خلال تعميمها للاتجاهات السلفية، كما نلمس ذلك في التعليم والجيش وقوات الأمن.
وهكذا، فإنّ المهم تعزيز الانتماء الإيجابي، الإرادي والحر والمعاصر، لكل مكوّنات الشعب السوري، على أنها عوامل تنوّع وغنى. مما يقتضي وضع حدٍّ للانتماء السلبي الإكراهي، في ظل التوصيفات العددية (الأكثرية والأقلية)، وكذلك إنهاء وصاية البعض على الآخر تحت أي مسمى (قومي أو ديني). ويكمن الحل في التصالح مع التاريخ، وقبول الواقع الديمغرافي كنتيجة تاريخية عبرت الزمن وأخذت صورتها الحالية، إضافة إلى إقامة نظام ديمقراطي تعددي وشراكة سياسية حقيقية، ووضع حدٍّ للاستعلاء القومي والديني. باعتبار أنّ الحداثة السياسية جاءت بالدولة الوطنية الحديثة بوصفها الوحدة الاجتماعية التي توحّد الناس بواسطة روابط مدنية، قائمة على الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية للمواطنة.
إنّ دولة المواطنين السوريين المتساوين في الحقوق والواجبات هي الأقدر على احتضان حقيقي لتعدد الهويات، ومعالجة الطائفية، لأنها دولة جامعة ترعى الاختلاف وتمنع الخلاف، وهي ناظم لتطبيق القانون، من غير انغلاق أو احتكار. حيث لا يمكن الحديث عن هوية أغلبية وهوية أقلية، لاسيما إذا كان القصد التسيّد والتفوّق والأحقية، لأنّ ذلك سيؤدي إلى التصادم مع الآخر وفرض الهيمنة عليه، يقابله ردّ فعل ورفض، وقد يؤدي ذلك أيضاً إلى الانكماش والانكفاء.
إنّ السعي إلى إحياء الهوية الوطنية السورية لا ينطوي على إلغاء الهويات الفرعية، كي تكون قادرة على تلبية حاجات الاجتماع السياسي، أي إعادة بناء الدولة السورية الحديثة.
إنّ الفوات التاريخي للوطنية السورية يطرح علينا مهمة المساهمة في إعادة صياغة المفاهيم المرتبطة بهذه الوطنية، أي المساهمة في تجديد الثقافة السياسية لدى السوريين. خاصة أنّ موضوع علاقة الهوية الوطنية الجامعة مع الهويات الفرعية للمكوّنات السورية سيكون حاضراً بقوة. إذ لا بدَّ من صياغة برنامج عمل فاعل لاستدراك التدهور الحاصل على صعيد إعادة تشكيل الهوية السورية الجامعة، مع الأخذ بعين الاعتبار التنوّع القومي والديني والمذهبي، مما يؤدي إلى إدارة هذا التنوّع بما يخدم إغناء الحياة الاجتماعية السورية. وهنا من الضروري رفض أية مشاريع مستقبلية تقوم على أساس المحاصصة القومية والطائفية لمؤسسات الدولة، بل إنتاج خطاب وطني جامع، يقوم على فكر واعٍ حضاري مدني حامل لمشروع ديمقراطي يوفر الحرية والكرامة للشعب السوري.
إنّ السعي إلى إحياء الهوية الوطنية السورية لا ينطوي على إلغاء الهويات الفرعية، كي تكون قادرة على تلبية حاجات الاجتماع السياسي، أي إعادة بناء الدولة السورية الحديثة، باعتبار أنّ غياب هذه الهوية عامل أساسي في استفحال الكارثة السورية، خاصة تسهيل التفريط السياسي بالوطن السوري. على أساس صياغة سوريا الجديدة، سوريا الوطن والمواطنة والتعدّد والتنوّع، على قاعدة الديمقراطية السياسية والاجتماعية. ومن المؤكد أنّ إعادة بناء الوطنية السورية ليست أمراً يمكن إنجازه عبر إجراءات فوقية، وهي ملازمة للعملية السياسية ونتيجة متدرجة لها، ولكنها لا تُبنى على المحاصصات من أي نوع، وإنما على أساس الكفاءة والولاء للدولة الوطنية.
المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى