
يبدو بوضوح أن الدولة الصهيونية لم تعد مستعجلة لإقامة علاقات رسمية مع الدول العربية وفق إتفاقيات معلنة تحت مسمى ” التطبيع ” ..
فقد تبين لها أن التطبيع الرسمي مع الدول لم يعطها ما كانت تطمع بالحصول عليه..فراحت تعمل في إتجاه آخر يضمن لها ما يتفق مع مشروعها الأم بإقامة مملكة بني صهيون المسماة : ” إسرائيل الكبرى ” ..توجهت إلى الساحة الشعبية واعطتها الأولوية على أية علاقات رسمية معلنة مع أي نظام رسمي..صار الهدف الأساسي لها هو القبول الشعبي العربي لها أولا وبعدها يكون التطبيع الرسمي تحصيل حاصل ويحقق لها ما تريد بعد تهيئة أرضية شعبية قابلة بالتطبيع أو مرغمة عليه وعاجزة عن مجابهته..
تدرك دولة العدو الصهيوني أن ثمة عوائق متعددة تحول بينها وبين تحقيق أحلامها التوسعية – الإستعمارية ..
– العائق الأول : أن العدد البشري من ” الإسرائيليين ” الذين يقيمون في فلسطين المحتلة لا يكفي أساسا لأي توسع جغرافي أبعد من حدودها الحالية..وبالتالي لا تستطيع ألتمدد في وسط بحر بشري مكتظ ومتنوع يحيط بفلسطين التي تغتصبها ويحمل في عقله وثقافته ونفسه عداء متجذرا للمشروع الصهيوني ولدولة ” إسرائيل “..وليس لديها ما يكفي من البشر للسيطرة على هذا المحيط البشري المعادي..
– العائق الثاني : تراجع جاذبية المشروع الصهيوني في العقل اليهودي ذاته بعد بروز ظواهر كثيرة تقدمها نخبة من الأكاديميين والمؤرخين والمثقفين والباحثين اليهود من الذين تراجعوا عن صهيونيتهم وتخلوا عنها بعدما تبين لهظ زيف وكذب إدعاءاتها الدينية والتاريخية..فإنبروا إلى نقدها وتشريح أكاذيبها والتحريض على التخلي عنها وحث المقيمين في الأرض المغتصبة على مغادرتها وترك فلسطين لأصحاب الأرض الحقيقيين أي الشعب الفلسطيني..هؤلاء باتوا يمثلون مصدر خوف للدولة الصهيونية من الأقدام على أية خطوات توسعية جديدة..فهم يدينون وجودها ذاته ويصفونه بالإحتلال الذي يجب أن ينتهي..
– العائق الثالث : العداء الشعبي العربي العام لها : لمشروعها ولوجودها ذاته..فهي دولة إحتلال تمثل ذراعا متقدمة للأهداف الإستعمارية المعادية للأمة العربية وجسر عبور لها لمنع تحرر ووحدة وتقدم العرب..وهذه قناعات راسخة في الوجدان العربي بفعل الوقائع وتطور الأحداث وبفضل المعرفة والوعي بمخاطر المشروع الصهيوني الذي أسست له الحركات والقيادات الشعبية العربية القومية منها والدينية..
– العائق الرابع : التغيرات العالمية الشعبية أولا ثم الرسمية والتي باتت تؤيد الحق الفلسطيني وتدين ممارسات الدولة الصهيونية ثم باتت تعترف بدولة فلسطينية وتدعو لتأسيسها واقعيا وعملانيا..
هذا الرأي العام الشعبي – والرسمي – الذي يدين ممارساتها ؛ لن يتقبل أية خطوات توسعية عدائية منها..
– العائق الخامس : يتمثل في الصمود العظيم للشعب الفلسطيني وتمسكه بأرضه مهما بلغت التضحيات ..وهو ما كان السبب الأساس في تلك المتغيرات العالمية وما يصاحبها من رفض للسياسة الإسرائيلية وصولا حتى مقاطعتها إقتصاديا وأكاديميا وسياسيا..الأمر الذي بات يشكل تهديدا لمشاريعها كافة ولوجودها ذاته..
تفاقمت حدة هذه العوائق جميعا في السنين الأخيرتين بسبب من حرب الإبادة الجماعية التي تشنها قوات العدوان الصهيوني على غزة وفلسطين..
في مواجهة هذه التحديات والعوائق راحت دولة الإحتلال تعمل في عدة إتجاهات مجتمعة معا لتذليلها وتحضير أجواء مناسبة وأرضية صالحة تسمح بإطلاق مشروع ” إسرائيل الكبرى ” واقعيا ونقله من ألإطار النظري إلى الواقع العملي ..
ومما لا شك فيه أن الوضع الشعبي العربي كان ولا يزال هو المستهدف الأول لكونه العدو الحقيقي والعائق الأكبر على تلك الأوهام التلمودية المزيفة..
1 – لما كانت قضية فلسطين محور النضال العربي وعنوانه الجامع لكل قضية تحررية توحيدية وتقدمية عربية ؛
ولما كان إغتصاب فلسطين رأس حربة المطامع الأستعمارية الغربية في الوطن العربي ؛
فقد ترسخ في الذهن العربي وفي وجدان الشعب العربي عداء عميق الجذور للمشروع الصهيوني ودولته الغاصبة..
وحيث أضحت فلسطين راسخة في الوجدان العربي إنطلاقا من الفهم القومي العربي للصراع مع الصهيونية على أنه صراع وجود لا يقبل التسويات والتجزئة ؛ فقد كان الهدف الصهيوني قائما – ولا يزال – على تسفيه فكرة الإنتماء القومي العربي ونسف مقومات الهوية العربية الجامعة التي تعني وحدة المصير العربي ومنها يتأتى الإلتزام الشعبي العربي بالنضال من أجل قضية فلسطين وتحرير أرضها وإستعادتها إلى إنتمائها القومي وهويتها العربية..وترسيخ فكرة الهوية الأقليمية الخاصة بكل بلد عربي دون أن تكون لها صلة بالهوية الجامعة ..هوية إقليمية خاصة لها مميزاتها وخصوصياتها على كل المستويات مع الإعتراف بثقافتها العربية وفي الوقت ذاته أستنكار فكرة المصير العربي الواحد..فكانت سياسة ترسيخ الشعور الإقليمي الإنفصالي أساسا للتخلي عن قضية فلسطين والإلتزام بها..وهذا إستدعى صناعة حساسيات وتناقضات مصلحية وقضايا هامشية وفرعية تخص البلد الواحد في مواجهة البلدان الأخرى..حتى ينشغل أهل كل بلد بما لهم من مشكلات والإنصراف عن التفكير بالمصير الواحد بل بمقتضى ما يترسخ من حساسيات وخلافات وتناقضات مع البلدان الأخرى..وبالتالي إسقاط تبني فلسطين والإهتمام بها وبقضيتها ؛ إن لم يكن بحكم الإقتناع فليكن بحكم الإنشغال الطارىء الملح بالقضايا الجزئية وتفرعاتها الهامشية في مواجهة عرب آخرين..أما نتائج هذه السياسة فقد كانت نجاحا – وإن جزئيا أو مرحليا – أدى إلى إستيعاب أعداد لا بأس بها من ابناء الشعب فتم تحييدهم عن الإنخراط في أية مواجهة نضالية من أجل فلسطين..
2 -تفكيك المجتمعات العربية في كل بلد حتى تلك التي لا يتبنى نظامها سياسة العداء لدولة ” إسرائيل “..فقد دلت تجارب التطبيع الرسمي مع النظام المصري ومثيله الأردني ثم إتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية ، أن الشعب بقي رافضا وغير متجاوب لا بل يحارب التطبيع بما أوتي من قوة وإمكانيات..فبقيت الإتفاقيات بين أنظمة ولم تنجح كل الوسائل والإغراءات والضغوط في تحويلها إلى واقع شعبي..وبقيت الساحة الشعبية محورا لأعمال تخريبية متنوعة بهدف تفكيكها وإستلاب قدرتها على تخريب التطبيع حتى لو أرادت تخريبه .. فكانت سياسة تغذية أنواع شتى من العصبيات الإنقسامية التفكيكية تحظى بأولويات كبيرة وإمكانيات أكبر..وهو ما نرى نتائجه في بروز العصبيات الطائفية والمذهبية والقبلية والعشائرية وبروز قضية ما يسمى بالأقليات كعنوان لدفع التقسيم السياسي – الإجتماعي – الثقافي خطوات عملية ميدانية فاعلة..كل هذا أدى إلى بروز قوى إنفصالية تقسيمية تجسد تلك العصبيات وتحولها إلى واقع حركي وفعالية عملانية..وهو ما أسفر عن تحييد قطاع آخر من الكتلة الشعبية وإشتغراقه في شؤونه الخاصة وعصبيته التي وضعته في مواجهة أصحاب عصبية أخرى فتنحوا عن فلسطين وقضيتها..فضلا عما تسببت به تلك العصبيات من حروب أهلية محلية إستنزفت طاقات الجميع ولا تزال تنذر بمزيد من الصراعات الأهلية المدمرة للجميع أيضا..
– يتبع –






