
في الساعة 3:40 فجراً من يوم الجمعة 28 تشرين الثاني 2025، دخلت قوة إسرائيلية من الفرقة 210 تتبع للواء الاحتياط 55 إلى بلدة بيت جن بريف دمشق الغربي، في عملية قالت تل أبيب إنها استهدفت اعتقال ثلاثة شبان منتمين إلى “جبهة المقاومة الإسلامية في سوريا-أولي البأس”. ما بدأ كعملية اعتقال، تحوّل سريعاً إلى اشتباك بعد تصدي “أهالي البلدة” و”مسلحين محليين” للقوة المتوغلة، حيث جرى تطويق الآلية وتعطيلها، وكادت القوة تتعرض للأسر وفق شهادات محلية.
اعترف جيش الاحتلال الإسرائيلي بإصابة ستة من جنوده وضباطه، بينهم ثلاث إصابات خطرة، قبل أن ينسحب تحت حماية نيران المروحيات والمسيرات والمدفعية، ثم دمّر الآلية المُعطلة بغارة جوية حتى لا تبقى غنيمة. على الطرف الآخر، أعلن الدفاع المدني السوري سقوط 13 شهيداً و24 جريحاً، بينهم ستة من عائلة واحدة قُصف منزلها وهي نائمة.
وصف بيان الخارجية السورية الهجوم بأنه “جريمة حرب مكتملة الأركان”، في حين أشارت تقارير دولية إلى أنه من أكثر الهجمات دموية منذ توسّع الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب السوري أواخر 2024، حيث يسيطر على مناطق تقدر بمئات الكيلومترات ويكثّف التوغلات البرية والطلعات الجوية.
بيئة بلا ردع… وولادة جماعات جديدة
ليست عملية بيت جن الأولى من نوعها. البلدة الواقعة على سفوح جبل الشيخ شهدت خلال الأشهر الماضية عمليات تفتيش واعتقال متكررة، اعتُقل خلالها أكثر من سبعة شبان من دون معرفة مصيرهم. الجنوب السوري أصبح اليوم خارطة معقدة، فإسرائيل فرضت واقعاً جديداً بتمركزها في مواقع منزوعة السلاح سابقاً، وتسييرها دوريات شبه يومية تحت ذريعة “ملاحقة عناصر مسلحة”.
ويأتي ذلك في لحظة إقليمية مشتعلة من لبنان إلى غزة واليمن، ما يجعل الجنوب السوري ساحة حساسة لأي نشاط عسكري.
في قلب هذه البيئة ظهرت “جبهة المقاومة الإسلامية – أولي البأس” كإحدى الجماعات التي تشكلت فوق فراغ السلطة وتعدد الأذرع الإقليمية، لتضيف طبقة جديدة من الخطورة على خط الجولان المحتل.
من هي “أولي البأس”؟
تُظهر دراسات متخصصة أن الجماعة ظهرت أواخر 2024 باسم “جبهة تحرير الجنوب”، قبل أن تعيد تقديم نفسها مطلع 2025 باسمها الحالي، مستخدمة شعاراً قريباً من أيقونية حزب الله، وخطاب “محور المقاومة” ذاته تجاه إسرائيل والوجود التركي والغربي.
الاسم نفسه – “أولي البأس” – مستلهم من حملة إعلامية لحزب الله عام 2024، وتكرر في خطابات قياداته. تربط مراكز أبحاث عدة الجماعة مباشرة بشبكة التهديد الإيرانية وتعتبرها جزءاً من محاولة إعادة نسخ نموذج “وكلاء المقاومة” بعد سقوط نظام الأسد، ضمن شبكة تمتد من لبنان إلى العراق واليمن.
بمعنى آخر، نحن أمام جماعة عقائدية–عسكرية تتحرك على تخوم الجولان تحت شعار “المقاومة”، لكنها عملياً تفتح جبهة بالوكالة فوق أرض مرهقة أصلاً بالخراب.
تسجيل صوتي… خطاب يتجاوز الدولة
في 8 تشرين الثاني 2025، نشر المتحدث العسكري للجماعة، أبو القاسم، تسجيلاً صوتياً هاجم فيه الحكومة السورية الجديدة وحلفاءها، وقدم نفسه كبديل عن الدولة قائلاً: ” توعد بالرد على الاعتداءات الإسرائيلية في المكان والزمان المناسبين” وأَضاف أن “المقاومة الإسلامية بكافة تشكيلاتها على أهبة الاستعداد وأنها تراقب بدقة مسار الاعتداءات الأخيرة” وأردف “الرد لن يكون بقصف ولا بصواريخ ولا مسيرات” بل إنهم “يعلمون كيف يدخلون أرضهم وكيف يضربون العمق ويسقطون الأركان”. هذا الخطاب يستهدف ليس مواجهة إسرائيل فحسب، بل جرّ سوريا إلى نمط عمل أمني–سري لا يخضع لأي مساءلة.
وبعد قصف بيت جن، قالت الجماعة في بيان إن العدوان “لن يمر دون رد قريب”، متعهدة “بتحرير سوريا وفلسطين”. اللغة المستخدمة – “قلعة المقاومة العربية”، “لن نستسلم” تحمل بصمة خطاب محور المقاومة.
إدانة العدوان الإسرائيلي واجب أخلاقي وسياسي، لكن حماية السيادة لا تتم عبر جماعات تعمل خارج الدولة وتفرض نفسها ممثلاً للشعب من دون تفويض. السوريون في بيت جن وغيرها من حقهم رفض الاحتلال، لكن من حقهم أيضاً ألا تتحول قراهم إلى ساحات تجارب لجماعات تقول إنها “مقاومة”
أين المشكلة؟
رغم إدانة العدوان الإسرائيلي واعتباره انتهاكاً صارخاً للسيادة السورية، إلا أن المشكلة لا تقتصر على الاحتلال وحده، فجماعة “أولي البأس” تعمل خارج الدولة، وتقدّم نفسها فوق مؤسساتها، وترتبط بمحور إقليمي يستخدم سوريا كساحة لا كهدف. كما أنها تجرّ الجنوب السوري إلى مواجهة مفتوحة مع إسرائيل في لحظة حساسة للغاية، حيث تُترجم تل أبيب أي نشاط على الجولان بوصفه جزءاً من “حصار متعدد الجبهات”، وترد عليه بسياسة “الدفاع ما وراء الحدود”.
بهذه الطريقة تصبح بقايا الوجود الإيراني في سوريا من الجماعات العقائدية وربما داعش أيضاً أفضل ذريعة لتوسيع التوغلات والقصف، كما حصل في بيت جن.
السيادة مسؤولية تجاه الناس
إدانة العدوان الإسرائيلي واجب أخلاقي وسياسي، لكن حماية السيادة لا تتم عبر جماعات تعمل خارج الدولة وتفرض نفسها ممثلاً للشعب من دون تفويض. السوريون في بيت جن وغيرها من حقهم رفض الاحتلال، لكن من حقهم أيضاً ألا تتحول قراهم إلى ساحات تجارب لجماعات تقول إنها “مقاومة” في حين تدفع القرى ثمن الرد الإسرائيلي.
الدفاع عن سوريا يمر عبر مشروع وطني واضح، لا عبر جماعات عابرة للدولة، فبائع وهم “تحرير فلسطين وسوريا معاً” عبر تسجيلات صوتية، وهو يعلم أن الرد سيقع على رؤوس المدنيين، لا يختلف كثيراً عن الذي يضغط على زر القصف من الطرف الآخر.
ويبقى اسم بيت جن شاهداً جديداً على فراغ الدولة وخطر الوكلاء، وعلى حاجة السوريين إلى مظلة سيادية حقيقية لا تتركهم بين احتلال يقتلهم وجماعات تتاجر بدمهم.
المصدر: تلفزيون سوريا





