أحكام ثقيلة في تونس وتصعيد دبلوماسي

محمد خليل برعومي

تكشف الأحكام الصادرة أخيراً في ما يُعرف بملف “التآمر 1” أن الدولة التونسية تمضي نحو تكريس منظومة قضائية تُستخدم للتخلّص من المعارضة أكثر مما تُستخدم لإدارة العدالة، وأن المحاكمات لم تعُد مجرّد إجراء قانوني، بل جزء من بنية سياسية تتعامل مع الخصوم بوصفهم عناصر تهديد، لا فاعلين في المجال العام، فالأحكام التي تراوحت بين خمس سنوات و45 سنة سجناً، جاءت في سياق سلسلة طويلة من الخروق الإجرائية، بدءاً من جلسات تُعقد عن بعدٍ بطريقة تحدّ من حضور الدفاع، مروراً بقاضٍ تعهّد الملف في بداياته، وهو نفسه محل تتبعات في قضايا فساد، وصولاً إلى ضابط أمن كان أول من فتح التحقيق، قبل أن يُسجن لاحقاً بتهم الرشوة، ما يجعل الملف أقرب إلى منظومة تصفية حسابات منه إلى مسار قضائي متكامل.
ويزداد المشهد وضوحاً حين يُلاحظ تزامن هذه الأحكام مع موجةٍ من الإفراجات الشكلية التي قدّمتها السلطة خلال الأسابيع الماضية، باعتبارها انفراجاً حقوقيّاً، ثم تخلّت عنها سريعاً لتعود إلى مسار التشدّد. تبدو هذه الحركة جزءاً من استراتيجية تقوم على إدارة الرأي العام عبر مزيج من الإشارات الإيجابية القصيرة والأحكام الثقيلة اللاحقة، بحيث تتمكّن السلطة من امتصاص الضغط الدولي حين يلزم، ثم تستعيد السيطرة من دون تقديم أي تنازل فعلي داخل البلاد. ويتكرّر هذا الأسلوب منذ سنوات، ما يجعل الإفراج المؤقت مجرّد أداة سياسية لا مظهراً لاحترام حقوق الإنسان.
ولا تأتي هذه الأحكام معزولة، بل تكمّل نمطاً بدأ يظهر في ملفات أخرى، مثل ما عُرف بقضية محافظة باجة، التي حملت سمات المحاكمة السياسية، المبنية على تهم فضفاضة وتقديرات أمنية واسعة. يعكس هذا التماثل بين الملفات أن القضاء أصبح جزءاً من عملية رسم الحدود السياسية، لا آلية للإنصاف، وأن الدولة تتعامل مع الخلاف السياسي جريمة تُدار عبر الجهاز القضائي، بدل أن تُدار عبر الحوار والمؤسسات.
مناخ سياسي يتجه نحو الانغلاق، حيث تتقلّص مساحة العمل الحزبي إلى الحد الأدنى، ويخضع المجال الإعلامي لضغط مستمر
وتجري هذه التطورات في مناخ سياسي يتجه نحو الانغلاق، حيث تتقلّص مساحة العمل الحزبي إلى الحد الأدنى، ويخضع المجال الإعلامي لضغط مستمر بفعل المرسوم 54 الذي يقترب من استخدامه قانوناً شاملاً لتجريم النقد، بينما تتعرّض الجمعيات والمنظمات لمحاولات متكرّرة للحد من نشاطها أو لتغيير شروط عملها. ونتيجة ذلك، يصبح المجال العام فضاءً مراقباً يتحرّك فيه المواطن وفق سقف تحدده السلطة، في حين تتراجع كل آليات الوساطة التي كانت تُوازن العلاقة بين المجتمع والدولة.
وفي خضم هذا المشهد الداخلي، برز موقف البرلمان الأوروبي الذي اعتمد قراراً ينتقد تدهور الحرّيات ويطالب بالإفراج عن الموقوفين السياسيين وإلغاء التشريعات التي تُستخدم لتقييد حرية التعبير، لتكون هذه المرّة الأولى التي يصدر فيها موقف أوروبي موحّد، وشديد اللهجة، تجاه تونس منذ سنوات. واعتُبر القرار في بروكسل تعبيراً عن قلق عميق من استخدام القضاء أداة سياسية، وعن مخاوف من أن تتجه البلاد نحو نمط حكم لا يعترف بدولة القانون.
جاء ردّ السلطة التونسية على قرار البرلمان الأوروبي بصيغة تصعيدية واضحة، إذ عبّر الرئيس قيس سعيّد عن رفضه الكامل ما اعتبره تدخلاً سافراً في الشؤون الداخلية، وانتقل الخطاب الرسمي من مجرّد تسجيل موقفٍ إلى توجيه احتجاج شديد اللهجة إلى عدة سفراء أوروبيين. لم تكتفِ السلطة برفض القرار، بل اعتبرته محاولة ابتزاز سياسي، وأعادت التأكيد أن العلاقات الدبلوماسية يجب أن تقوم على أساس الاحترام المتبادل، لا على تقييم أوضاع الحرّيات داخل تونس. ويعكس هذا الردّ تمسّك السلطة بخيار المواجهة بدل الاعتراف بوجود أزمة حقوقية، ويُظهر رغبة واضحة في تحصين القرار السياسي من أي مساءلة خارجية أو داخلية.
استمرار تقييد الحريات لن ينتج استقراراً، بل وضعاً هشّاً يتغذّى من الخوف
ويكشف هذا التباين بين موقف البرلمان الأوروبي والردّ التونسي أن الأزمة لم تعد مرتبطةً بطبيعة الأحكام القضائية فقط، بل بوجود تصوّرين متناقضين لطبيعة ما يحدُث. ترى المؤسّسات الأوروبية محاكمات سياسية تمسّ استقلال القضاء، بينما تصرّ السلطة على اعتبارها ملفات جنائية عادية. وتتجاوز الخلافات حدود التقييم، لتصل إلى جوهر تعريف الدولة ووظيفتها، هل هي دولة تُخضع ممارسة السلطة لرقابة القانون، أم دولة تعتبر السيادة مبرّراً كافياً لإغلاق المجالين السياسي والإعلامي؟
ضمن هذا السياق، تصبح الأحكام الصادرة أخيراً مؤشّراً على اتجاه سياسي أكثر منه تطوّراً قضائياً، فإذا استمرّت السلطة في اعتماد هذه المقاربة، فإن البلاد تتجه نحو مزيد من الانغلاق، خصوصاً مع تزايد اعتماد الدولة على الأدوات القضائية والأمنية لإدارة المجال العام. أما إذا ترافق الموقف الأوروبي مع ضغط داخلي وطني من القوى السياسية والمدنية، فقد تجد السلطة نفسها أمام ضرورة مراجعة هذا المسار. وفي الحالتين، يبقى واضحاً أن توظيف القضاء لمعالجة الخلافات السياسية يضعف مصداقية المؤسّسات، ويعمّق الفجوة بين الحاكم والمجتمع، وأن استمرار تقييد الحريات لن ينتج استقراراً، بل وضعاً هشّاً يتغذّى من الخوف، ويولّد مزيداً من الاحتقان.
وفي كل الحالات، يبقى المؤكّد أن دولةً تستخدم القضاء لتصفية خصومها تعرّض مؤسّساتها للخطر، وأن سلطةً ترفض أي رقابة داخلية أو خارجية تفقد تدريجيّاً شرعيّتها، وأن مجتمعاً يُدفع إلى الصمت سيبحث حتماً عن أدواتٍ جديدة للكلام.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى