على من يضحك قرار مجلس الأمن عن غزّة؟

دلال البزري

في الأصل، نحن نضحك على قرارات هذا المجلس. النكات المرّة التي صدرت عن منطقتنا بخصوص لجانه وقراراته واجتماعاته تستحق التوثيق. على امتداد ثلاثة أرباع القرن الماضي، نقهقه وسط ركامنا: “اللجنة وصلت… بس فاتها القصف”، أو “الدم واضح والبيان مفقود”، أو “اللجنة تراقب والحياة تموت”، أو “العين تبكي والقرار نائم”، أو “الولد صحي مفزوع… والدبلوماسي صحي متأخّر”… إلى ما هنالك من جمل تلخّصها بضع كلمات من نوع: فيتو، تأجيل، قلق، صمت، تقرير، استنكار، تجميد، مراقب، اجتماع…
في الأصل أيضا، الداعي إلى اجتماع مجلس الأمن وإصدار القرار العتيد ليس سوى ترامب. أي الرجل الذي يحتقر مؤسّسات الأمم المتحدة بأسرها. وصفها سابقاً “نادي حيث يقضي الناس وقتاً طيباً”، بالفشل في حل الصراعات وبالقدرة على “خلق مشكلات جديدة”. وفي الخريف الماضي، خطبَ امام الجمعية العامة، كرّر التعبير عن احتقاره لها بسؤاله الاستنكاري “ما هي وظيفة الأمم المتحدة؟”، صاحبة “الكلمات القوية والبلاغة الفارغة”؛ مشبّها إياها بـ”مصعد كهربائي يتوقّف عند منتصف الطريق”. حملته المالية على الأمم المتحدة سبقت هذا الخطاب، واقترنت بتقليص الأميركي تمويل مؤسّسات الأمم المتحدة، بلغ النصف مع “أونروا”، ومع عدّة منظمات حقوقية وإغاثية ملحقة بها تعمل في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وكل مرّة بكلمة تؤكد على كسل هذه المؤسّسات أو تباطؤها أو خمولها.
ولا يختلف ترامب في ذلك مع فحوى نكاتنا، وإن افترقت تطلعاتنا عن “استراتيجيّته”، فجميع قرارات الأمم المتحدة منذ إنشاء دولة إسرائيل كانت حبراً على ورق. القرار 194 الذي يطالب إسرائيل حديثة النشأة بأن تعيد اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، أو التعويض لهم عن خسائرهم بالأرض والأرواح (1948). القرار 446 الذي يدين إقامة المستوطنات على الأراضي المحتلة عام الهزيمة (1967). ثلاثة قرارات صدرت في الثمانينيات تمنع طرد الفلسطينيين من أرضهم و”تلزم” بإعادتهم إليها. من دون ذكر قرارات إضافية قد تثقل كاهل هذه القراءة. ولكنها قراراتٌ مؤرْشفة، تجدها في أي حافظ للذاكرة. (لبنان مستثنى من هذه العطالة الأممية. إسرائيل انسحبت منه عام 2000 بعد 20 سنة من القرار 425، بعد ضربات حزب الله المتتالية. وقرار وقف النار 1701 نفذ بعد حرب 2006).
تعتبر تلك القرارات التي لم تنفذ من الأكثر دقة وتفصيلا. كانت تطالب بإجراءات واضحة ومحدّدة، باحترام القانون الدولي وبانسحابات عسكرية ووقف إطلاق النار. ومستعدة لإدانة من يخالفها، أو ردعه. ومع ذلك لم تنفَّذ.
القرار الجديد ورقمه 2803، والذي ضجت به الدنيا بصفته “الآلة التنفيذية” لمشروع ترامب للسلام “الخالد” في الشرق الأوسط، وكلام من هذا القبيل… هذا القرار هو الأكثر ضبابية وغموضاً مقارنة بما سبقه بشأن فلسطين، ويختلف عنها أيضاً بأنه غير مبني على أي مسوّغ قانوني، وليس مرفقاً بإجراءات ردعية في حال المخالفة أو عدم التطبيق، وعقوبات فورية أو إدانات… إلخ. كأن واضعيه قصدوا ألا يكون جدّياً، كأنهم تعلموا من تجارب الماضي أن لا ضرورة لكل وجع الرأس. بل أكثر من ذلك: تشعر لدى قراءته بأن انعدام دقة بنوده مقصود، فالدقة قد تورّط صائغيه بالمسؤولية في حال لم تنفذ هذه البنود.
ثمة أخطاء لفظية ارتكبها القرار 2803، وهو يعتبر نفسه بصدد الانتقال إلى المرحلة الثانية من خطّة ترامب، وكأن الأولى تسير على قدم وساق
نقصٌ متعمَّد في الدقّة: لا تحديد من الجيوش التي ستراقب هذه “المرحلة الثانية” من خطّة ترامب، ولا للمساعدات الحيوية إلى أهل غزّة، ولا خريطة طريق لانسحاب إسرائيلي منها، ولا أثر للفتك بالضفة الغربية واستيلاء المستوطنين، ولا لمدّة محدّدة لدخول “قوة فلسطينية” من السلطة لتحكم القطاع. وهذه الأخيرة مرهونة بـ”إصلاحات” تعمل إسرائيل على إحباطها. يُفترض أنها سوف تحكم “دولة فلسطينية”، يشير إليها القرار من طرف شفاه.
آه… الدولة الفلسطينية. تلك الفكرة التي أجمعت عليها عشرات الدول، غير الهامشية، يختصرها القرار الأممي بكلمتين: حكومة “تكنوقراط”، بلا حركة حماس، بلا جدول زمني، ولا تراجع عن “صفقة القرن”، التي تقتلها في مهدها، ولا طبعاً استعادة نصف أراضي غزّة التي باتت إسرائيل تحتلها، بقوة الواقع، والتي تحصر مليوني غزّي في بقعة أضيق من البصرة أو طنجة. وفي المحصلة كازينو أو ريفييرا أو مشاريع عقارية يشرف عليها صهر ترامب جاريد كوشنر ويجني منها مليارات الأرباح.
يقول بعضهم إن ترامب، بإشاراته إلى الدولة الفلسطينية، يلبي حاجته “الديبلوماسية” لتوقيع العرب والمسلمين. “تكتيك دبلوماسي” نادر عنده، يلبّي حاجته إلى شرعنة مشروع السلام “الخالد” الذي اقترحه في شرم الشيخ قبل شهرين، احتراماً لـ”خط أحمر” بلاغي وضعته القوى العربية والإسلامية المؤثرة شرطاً للموافقة عليه، واحتراماً أيضا لـ”الشرعية الدولية”، أي الدول التي ستدفع الأموال من أجل إعادة بناء غزّة وإزالة الركام… إلخ. فلا يعود المشروع مشروع ترامب وحده، إنما مشروع “أممي”، يحظى بالغطاء التمويلي والقانوني.
رذاذ مستحب للعيون الغافية، والتي تود أن تصدّق ما لا يصدَّق، لعلها تبقى غافلة فترة أطول
لا يوجد في القرار بندٌ يطالب إسرائيل بدفع أموال التعويض عما اقترفته أياديها في غزّة. إسرائيل دمّرت كل شيء فيها، وعلى الدول الطامحة إلى لعب دور في مستقبلها أن “تدفع”، أي أن تنافس إسرائيل في تقرير مصيرها. النقطة الأكثر وضوحا في القرار أن ترامب هو رئيس “مجلس السلام” الذي سيعيد “السلام والازدهار الدائم” إلى غزّة، وهو الذي سينسق المشاركة الدولية في هذا المجلس، ويشرف على “الإصلاحات”.
أخيراً: ثمة أخطاء لفظية ارتكبها القرار 2803، وهو يعتبر نفسه بصدد الانتقال إلى المرحلة الثانية من خطّة ترامب، وكأن الأولى تسير على قدم وساق، فيملي: “الحفاظ على وقف إطلاق النار بحسن نية ومن دون تأخير”. فيما نحن نعلم والعالم أجمع يعلم أن قتل أهل غزّة بعد “وقف النار”، في نهاية الصيف الماضي، بقي شغّالاً يومياً، وبانتظام. كان الأجدر تسميته “وقف وتيرة الإبادة”، أما “حسن النية” و”بدون تأخير”، فتزيد على اللغة أعباء أخرى ثقيلة.
لا تقلّ السقْطات اللغوية الأخرى فداحة، مثل: “وحدة غزّة والضفة”، التي نشاهد يومياً ما يفعله بها المستوطنون والجيش الإسرائيلي. أو مثلها “دولة على حدود الـ1967″، و”معها القدس”، أو “من أجل سلام وازدهار” أو “الإرهاب”… “الفلسطيني” دوما، أو “الخطة الشاملة”…
كله رذاذ مستحب للعيون الغافية، والتي تود أن تصدّق ما لا يصدَّق، لعلها تبقى غافلة فترة أطول. ليستمر الضحك على أصحابها تثميناً لاستقرار مغشوش أو ازدهار موهوم.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى