قراءة في رواية: المرّ

عبد المجيد عرفة

عن دار نرد للنشر والتوزيع صدرت رواية المرّ للكاتبة سوسن صالحة أحمد، وهذا أول عمل روائي اقرأه لها.
تعتمد رواية المرّ أسلوب السرد بلغة المخاطب على لسان الراوي. كما تعتمد الرواية في سردها على لحظة مفصلية تبدأ منها حيث يصل خبر للتوأم اليهودي المغربي ايليا وسارة اللذين قطعا دراستهم في فرنسا للسفر على وجه السرعة للمشاركة بتشييع جنازة والدتهم راشيل في المغرب التي ماتت نتيجة إصابتها بالسرطان.
نحن في هذه القراءة للرواية سنكثّف عرض مضمونها متجاوزين ضمنا السرد حسب تسلسل الرواية لنقف عند مفاصلها الاساسية، ومن ثم ندخل في قراءة مضمونها ورسالتها.
لنبدأ من الحرب العالمية الثانية عام ١٩٤٥م والاضطهاد الذي أصاب اليهود على يد ألمانيا النازية والذي أدى لموجة هروب جماعي لليهود إلى كل دول العالم وبالاخص الى فلسطين التي كانت قد أعلنتها انكلترا دولة لليهود منذ وعد وزير خارجيتها بلفور عام ١٩١٧م. ونفذت وعدها بتسهيل مجيء اليهود الى فلسطين بعد سقوط حكم العثمانيين بعد الحرب العالمية الأولى ووقوع فلسطين تحت الحكم الانكليزي وفق اتفاقات سايكس بيكو.
جاءت الفتاة راشيل اليهودية مع عائلتها الى فلسطين هاربة من النازيين عام ١٩٤٥م وهناك التقت بالشاب السوري محمود الذي كان يعمل هناك ، حيث كان قد ترك سورية بلاده إثر منع والده له من الزواج من حبيبته مريم المسيحية.
محمود رجل يعيش على هواه ولا يجد من المكونات الدينية والعرقية ما يحول دون أن يعيش علاقات مفتوحة جسدية، هذا ما حصل بينه وبين مريم المسيحية السورية التي تركها وراءه ولا يعلم ان في رحمها ولد له سيولد بعد حين وسيتم مغادرة مريم مع عمتها الى فرنسا للولادة و تسجيل الطفل باسم عمتها لان مريم غير متزوجة ولكي لا يقع عليها عار الحمل والولادة بصورة غير شرعية. كذلك الحال عندما وصل محمود فلسطين والتقى براشيل التي حصل بينهم تناغم وتواد وادى لحصول علاقة جسدية ، ولكن تسارع الأحداث والصراعات بين اليهود والعرب قبل اعلان دولة اسرائيل على ارض فلسطين عام ١٩٤٨م أدى لهروب محمود إلى الكويت تاركا وراءه راشيل وهي حامل. وتخبر صديقها اليهودي
دانيال بحالها ويتزوجها ويذهبان سوية للعيش في المغرب ويستقران هناك لتنجب زوجته توأم ايليا وسارة وهما بالحقيقة ابناء محمود السوري المسلم ومن بعد ذلك تنجب توأما آخر من زوجها اليهودي.
لقد عاش محمود علاقة جسدية مع راشيل في فلسطين رغم أنه كان متزوجا من امرأة فلسطينية هناك. وعندما هرب الى الكويت انجبت له طفلا. وفي الكويت تزوج هناك من امرأة كويتية من أصول فارسية مات زوجها ولها منه أولاد وأنجبت منه آخرين وهكذا كان استقراره في الكويت وسط أسرته يعمل في مجال المقاولات حالته ميسورة يعيش مستقرا و راض عن نفسه.
وصلا ايليا وسارة إلى المغرب عام ١٩٧٣م. وهناك شاركوا في جنازة والدتهم ومن ثم عادوا ليكملوا دراستهم الجامعية. فقد تبحروا أحدهم بالعقائد والأديان والآخر في التاريخ وأصبحوا أكثر تحررا من ثقل الهوية الدينية اليهودية بكل تبعاتها.
عادا ايليا واخته سارة الى المغرب بعد نهاية دراستهم الجامعية في باريس عام ١٩٧٤م وهناك في المغرب كان ينتظرهم السر وانهم ابناء محمود السوري المسلم. علموا من رجل الدين اليهودي صديق والدهم ومن والدهم ايضا، مما جعلهم يقررون البحث عن اباهم محمود فهم يهود من أب مسلم وأم يهودية.
ذهبوا الى فلسطين التي أصبحت دولة إسرائيل ووصلوا إلى حيفا حيث التقوا بزوجة محمود واكتشفوا أن لهم أخ آخر خالد من امه الفلسطينية. كما التقوا بالأخ الأكبر لمحمود الذي سيكون لهم دليلا في بحثهم وليقدم لهم كل ما يعرف من تاريخ والدهم و ما حافظ عليه من رسائل وأخبار عن أخيه محمود المستقر بالكويت وان العلاقة ليست مقطوعة بينهم.
كان الأخ الأكبر لمحمود شخصية منفتحة متبحرا بالتصوف يتسامى عن الخلافات بين الأديان والمجتمعات ليصل إلى الحب الإلهي. نموذجه ابن عربي وغيره من المتصوفة الذين جاد بهم التاريخ الإسلامي. لذلك كان متفهما لقلق اولاد اخيه من امهم اليهودية وقرر مساعدتهم للوصول الى مبتغاهم ولقائهم بأبيهم محمود.
في حيفا علم الاخوة ايليا وراشيل أن لهم أخ رابع من حبيبة والدهم الاولى مريم المسيحية السورية . لقد أخبر محمود أخاه بذلك عبر احدى الرسائل. مما جعل الاخوة الثلاثة ايليا وراشيل وخالد الفلسطيني يقررون الذهاب الى دمشق للّقاء بمريم ومعرفة مصير اخيهم من ابيهم .
ذهبوا الى دمشق ووصلوا إلى مريم المسيحية وعمتها وابن عمتها الدكتور مطانيوس ليعلموا كيف ولدت مريم ولدها مطانيوس في فرنسا وكيف نسبته لعمتها خوفا من الفضيحة لكونها غير متزوجة. وأنه عاش في فرنسا ثم في دمشق مع والدته وعمته. كُشفت الحقيقة التي لم يتقبلها مطانيوس ووقع في وضع نفسي سيء، تجاوزه بصعوبة. ومن ثم قرر السفر مع اخوته الى الكويت لرؤية والدهم والغوص أكثر في شخصية هذا الأب الذي زرع بذرته في أرحام كثيرة متنوعة دينيا ومجتمعيا.
وصلوا بعد عناء الى الكويت والى والدهم محمود ووجدوا ان له اسرة كبيرة من زوجته الشيعية وتحدثوا معه بكل ما عندهم. لم يستغرب كان يتقبل كل ما يحصل معه وكان يمارس حياته بكل انفتاحها مقتنعا أن ذلك حقه الذي لن يتخلى عنه وأن كل الموانع الاخلاقية والدينية والمذهبية والمجتمعية لا تمنعه ان يعيش حياته كما يراها ويهواها.
في بيت محمود ستنفجر حقائق الحياة والصراع الديني والمذهبي والمجتمعي. فهناك صراع في فلسطين بين اليهود من جهة والعرب مسلمين ومسيحيين من جهة أخرى. وهناك صراع مذهبي سني شيعي تاريخي. وتبين لهم أن التاريخ هو مسرح صراع هويات وأديان ومعتقدات وأن الضحية هو الإنسان كل الوقت.
لم يستطع محمود ان يوقف تصاعد الخلاف بين أبنائه المتنوعين دينا واثنيا و معرفيا وفكريا.
تركهم يتابعون معاركهم الفكرية وسجالاتهم في بيته وغادر البيت الى مكان مجهول تاركا لهم رسالة يفند لهم ما يرونه هويّات ومكونات ومعتقدات هي مجرد موانع للعيش الإنساني السوي وليكون الإنسان ضحية صراع له نتائج كارثية عليه وهذا ما حصل عبر التاريخ الإنساني. والحل ترك كل ذلك والعيش في عوالم الحب الإنساني والإلهي وتجاوز كل خلاف وتقبل لكل تنوع لتعيش الحياة كما يجب. حب وخير.
الجديد في ختام النص الروائي مجيء فتاة هندية كانت تعمل عند أحد أصدقاء محمود في الكويت احبها محمود وتزوجها، ومن ثم طردها كفيلها بسبب ذلك الى بلدها الهند. وهناك كانت تحمل بذرة محمود في رحمها. ولدت طفلها وعندنا حصلت كارثة في حياتها هناك عادت الى الكويت حتى تعطي الطفل لأبيه محمود.
تنتهي الرواية عندما يترك محمود أولاده في حالة هياج وصراع ونقاش عقيم تاركا لهم رسالته ويذهب للغياب مجددا.
في التعقيب على الرواية اقول:
بداية ليس ترك نفسك على هواها كنموذج محمود مستمتعا بغرائزه ليس الا اعلان حرب ضد ضبط النوازع البشرية وجعلها منضوية تحت المتوافق عليه قيم وأعراف ، وان تخدم الفرد في استقراره وهنائه والجماعة في تحقيق حياة أفضل.
للرواية رسالة تظهر في ثنايا الرواية وفي محصلتها. انها تريد القول ان الاصل في الانسان هو ميله الإنساني للخير والحب والسللام والعيش في مناخ منفتح وايجابي ودون أي مبرر للخلافات والصراعات والحروب. وان التنوع القومي والاثني والمجتمعي والديني والمذهبي بما يعكسه على عقل الإنسان ويجعله مطية له ومن ثم يجيّشه حتى يكون بيدقا في حروبه الخاصة والمجتمعية وأن تحرر الإنسان من كل هذه الارتباطات يجعله أقرب لانسانيته ويؤسس لمجتمع سلام وتسقط الحروب ونتائجها الكارثية في الحياة. وأن الإنسان ضحية السياسة التي تستهلك الإنسان وتؤدي لضياعه.
لا يخفى الهدف النبيل من هذا الطرح لكن الواقع يظهر أن ذلك مجرد أحلام يقظة لا تنفع، وقد تضع من يؤمن بها ضحية حقائق الحياة القاسية:
لأن الانسان و فرديته مسكون بالخير والشر وحب الذات والتملك والعنف والعدوانية .. الخ كل ذلك منذ قابيل وهابيل، أول جريمة قتل من الانسان لاخيه الانسان دون مبرر مقنع.
اما الانسان في الجماعة فهو لم ولن يوجد خارج أرومته الوجودية. دين ومذهب وقومية وارث وتاريخ. لا انسان ولا جماعة دون هذا الحمل الإنساني الثقيل. ولا حل ان ترمي كل ذلك وكأنه غير موجود، قد يحصل عند بعض الأفراد ونموذجهم بعض المتصوفين من كل المعتقدات. لكن السائد هو التصرف وفق المصالح وخوض صراعات على هذه الخلفية سواء في مجتمعات الأديان والعقائد والامبراطوريات قبل عصر الرأسمالية والتطور الصناعي وتقاسم العالم كله بالعنف والقوة والسلاح كغنائم حرب مغمسة بالدماء.
لسنا محملين فقط بإرث الصراع المذهبي منذ معاوية وعلي ولا بإرث الانظمة الاستبدادية التي استعبدت واستغلت شعوبها. ولا قرار الغرب الرأسمالي طرد الفلسطينيين وإسكان اليهود في فلسطين بدلا منهم وإعلان دولة صهيونية منذ ثمانية عقود مازالت تشرعن حياتها بالدم الفلسطيني المستباح للآن في غزة وعموم فلسطين.
ولم ينسى العالم ملايين الأبرياء من الأوروبيين وغيرهم وليس اليهود فقط من سقط في الحربين العالميتين. ولا النتائج الكارثية من قصف اليابان بالنووي في هيروشيما ونجازاكي وسقوط أكثر من نصف مليون إنسان في ثواني معدودة وكأن القيامة قامت ودمرت كل شيء. ولا ضحايا الاستعمار الغربي الذي امتد عالميا وعندنا نحن العرب لعقود أدى لسقوط ضحايا بالملايين وهدرت حياتنا وأرواحنا.
نعم ان توحش الإنسان حقيقة لا تناقش لكن ان كان هناك إمكان لتهذيب هذه الطباع. وأن توضع تحت القانون الدولي والمحاسبة وان تُستثمر لصناعة حياة أفضل للبشر بدل قتلهم وتدمير الارض تحتهم وفوقهم.
نعم اصل الاديان والعقائد الاخلاقية والدعوات للخير واحد. لكن مشكلتنا في تحول تلك الأديان والمذاهب والعقائد إلى وقود في تسعير الصراع ضمن معادلة المصالح التي لا تعرف دين او عقيدة او اخلاق.
لن نستطيع حتى كأفراد أن ننعزل عن واقعنا الاجتماعي الفردي والعائلي والمجتمعي والإقليمي والدولي. لذلك الحل ان نكون جزء من هذا العالم ونقول كلمتنا ونسعى افرادا وجماعات لأنسنة السلوك البشري والتحرك لبناء حياة قائمة على الحرية والعدالة والحفاظ على الكرامة الإنسانية وأن نبني الدولة الديمقراطية كأفضل نموذج للآن في ادارة الحياة ضمن الجماعة على كل المستويات.
انه حلم وأمل ومستقبل افضل يجب ان نعمل له.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى