
يبدو أن المرشد الأعلى للدولة الإيرانية علي خامنئي قد اقتنع أخيرًا بخسارة سورية خسارة نهائية، لذلك طلب من الوزارة تحضير فاتورة المبالغ التي أنفقتها إيران في سورية لمطالبة العهد الجديد بها، ولست هنا للتعليق على مدى السخف في مثل تلك المطالبة، فقط ما أود قوله إن الدولة السورية الجديدة هي من يحق لها بل ومن واجبها مطالبة إيران بدفع التعويضات عن الخسائر الهائلة التي لحقت بالدولة والشعب في سورية من جراء دعم النظام الوحشي الطائفي الفاسد ومنع سقوطه بكل الوسائل بما في ذلك التدخل العسكري عبر أدواتها في لبنان والعراق وعبر الحرس الثوري الايراني وعبر توريط روسيا في الحرب لدعم النظام و عبر تزويده بالأسلحة والعتاد والمال في حربه الظالمة ضد الشعب السوري .
بعيدا عن ذلك فنحن نشهد انسحابا استراتيجيا لإيران من المشرق العربي , وبأفول العصر الايراني الذي جلب معه إشعال الانقسامات الطائفية والنفخ فيها واستعادة أرواح الموتى منذ مئات السنين وصناعة الرايات والجيوش الطائفية , فإن الطائفية ذاتها قد تلقت ضربة مؤلمة ترافقت مع انكشاف ما يمكن أن تقدمه للمجتمعات العربية من فساد وخواء وتأخر , والنموذج الحي لإفلاس الطائفية في المشرق العربي هو العراق , ولولا التحرك الأمني والميليشياوي المرتبط مباشرة بالنظام الايراني لسقط النظام العراقي غداة التحركات الشعبية الكبرى في العراق عام 2019 والتي تحولت من احتجاجات مطلبية ضد الفساد وسوء الخدمات وانعدام فرص العمل للشباب إلى إسقاط النظام , ولم تهدأ سوى بعدأن تدخلت مجموعات مشتركة من قوات مكافحة الارهاب الحكومية وفصائل من الحشد الشعبي , وشرطة مكافحة الشغب , وقناصة قاموا بقنص المتظاهرين السلميين . واستخدمت في مواجهة الاحتجاجات أقسى أساليب القمع التي اسفرت عن سقوط مئات القتلى والجرحى. حيث وثّقت منظمات حقوق الإنسان (مثل هيومن رايتس ووتش) استخدام “قوة قاتلة مفرطة” من هذه الأجهزة الأمنية ضد المتظاهرين.
ويمكن القول إن النظام العراقي الطائفي يعيش اليوم آخر أيامه، وسنده الحقيقي ليس سوى دعم إيران والميليشيات الأخطبوطية المرتبطة معها والتي تخترق الدولة العراقية في جميع مفاصلها وتجعلها عاجزة عن أي تحرك سياسي أو عسكري هام لا يحظى بموافقة طهران.
ليس الحال في لبنان بأفضل مما هو عليه في العراق، وفي الحالتين يمكن بسهولة رؤية أن الطائفية- السياسية هي التي تقف عقبة كأداء أمام استرداد لبنان وضعه الطبيعي حين كان سويسرا المشرق العربي في الستينات وأوائل السبعينات.
وفي سورية التي لم تعرف في تاريخها الحديث الصراع الطائفي، لم يكن بمقدور حافظ الأسد بعث الروح الطائفية والاستثمار فيها لتأبيد حكمه وتوريثه لولا الرياح الطائفية التي هبت على المنطقة العربية عبر ما يسمى بالثورة الاسلامية الايرانية، وقد ظهر ذلك بوضوح أكبر بكثير في عهد الأسد الابن حين ارتمى بصورة تامة في أحضان إيران مستخدما أدواتها العسكرية – الطائفية سندا له ضد شعبه.
والحقيقة أن ذلك كله لم يكن بمعزل عن السياسة الدولية وقد تكشف اليوم تماما كيف أن المخابرات الفرنسية (بعلم وموافقة السياسة الأمريكية بالتأكيد) هي التي احتضنت إقامة الخميني في باريس وهي التي خططت ونفذت سفره إلى طهران وصعود الخمينية للسلطة.
لقد كانت الثورة الاسلامية الايرانية فرصة ذهبية لإطلاق الروح الطائفية في المنطقة وإغراقها في صراعات وحروب تمنعها من التقدم والنمو لعقود قادمة كما حصل بالفعل.
لكن ذلك وصل إلى نهاياته عندما تخيل القادة الايرانيون أنهم أصبحوا سادة المنطقة، وأن استعادة مجد الامبراطورية الفارسية أصبح قاب قوسين أو أدنى ولم يبق سوى إقناع الغرب بالنظر إليهم كشريك رئيسي في التحكم بالمنطقة، وكان على اسرائيل تذكيرهم بأنهم تجاوزوا الخطوط الحمر في سعيهم للوصول للبحر المتوسط.
وعندما وصل الأمر إلى هذا المكان حدثت عاصفة طوفان الأقصى التي جعلت المنافسة الايرانية – الاسرائيلية على النفوذ في المنطقة تتصاعد لصراع دموي يجب أن ينتهي بانتصار طرف وهزيمة الطرف الآخر، ولم تكن إيران وحلفاؤها مؤهلين في ذلك الصراع للنصر.
سقط حزب الله عسكريا في لبنان، وسقط النظام في سورية، وخرجت إيران من سورية، وتضاءل نفوذها في لبنان، وهكذا نشهد اليوم اسدال الستار على العصر الايراني في المشرق العربي.
بانتهاء العصر الايراني فقدت الطائفية حاملها الرئيسي في المنطقة، بعد أن انكشف في العراق مدى خواءها وعقمها وكونها تشكل عقبة حقيقية أمام تشكل الدولة الوطنية الحديثة، لذا فالعصر الطائفي أيضا أصبح في مهب الريح، ويبدو أن السياسة الدولية أنهت رهانها على الاستثمار في الانقسامات الطائفية مع أفول العصر الايراني في المنطقة، وهكذا فجميع الانبعاثات الطائفية السياسية في المنطقة أصبحت محاصرة ومهددة وتقاتل قتال تراجع لا أمل فيه بالتقدم نحو الأمام وفي مقدمتها الانبعاثات الطائفية في سورية.






