
في العشرين من تشرين ثاني 2013 أقدمت القوى الأمنية في النظام الأسدي البائد على اختطاف رجاء الناصر ” أبو طلال”، أمين سر هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديموقراطي، وأمين سر اللجنة المركزية لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديموقراطي في سوريا، ورغم اعتراف النظام بداية باعتقال الناصر إلا أنه لم يلبث أن تراجع وأنكر صلته بالأمر، فكان هذا أول مؤشر على أن هذا المناضل بات في وضع مجهول، ودخل ضمن مصطلح “المغيبين قسرا”، واستمر الأمر كذلك حتى سقط النظام وهرب رأسه العفنة ورجالات الإجرام فيه، واستقبل السوريون مرحلة جديدة من حياتهم لم يكن يخطر في بالهم أن تتحقق بهذه السرعة، وبهذا الحسم، بعدما شهد السوريون بكثير من القلق والقهر محاولات تعويم ذلك النظام، وجهود إعادة تأهيله في الإطار الإقليمي والدولي.
وملف “أبو طلال” واحد من مئات الآلاف من ملفات المغيبين قسرا، التي استبشر السوريون في التعرف على خباياها، ومن ثم طيها في إطار مرحلة جديدة يدخلها الوطن، ويدخلها السوريون.
وحسب تقدير الشبكة السورية لحقوق الانسان فإن عدد المغيبين قسرا في سوريا يتجاوز 112 ألف شخص، وبالتأكيد فإن الرقم أكبر من ذلك بكثير، ذلك أن شروطا ومحددات عديدة تدخل في تقدير هذه المنظمات للعدد.
وقدرت الهيئة الوطنية للمفقودين في سوريا العدد بأكثر من 300 ألف شخص، وهذا كله يختص بمن غيب وفقد منذ انطلاق الحراك الثوري في سوريا في مارس 2011، أما قبل ذلك فهناك الكثير، ويجب أن يفرد لهم ملفا مستقلا.
إن ملف المغيبين قسرا واحد من الملفات الرئيسية التي تهم السوريين جميعا، وهو عنصرا من العناصر الرئيسية في مفهوم ” العدالة الانتقالية”، وهو يتصل بشكل عملي ومباشر نفسيا وعاطفيا وقانونيا بمئات آلاف الأسر السورية، ويمثل جرحا مفتوحا يزداد ضغطه وثقله في كل يوم جديد.
ولا شك بأن ملف “أبو طلال” واحد من هذه الملفات، التي تختزن جميعها قدسية ومكانة بقيمة واحدة في قلب كل السوريين، لكن لملف هذا المناضل الناصري قيمة إضافية، أخلاقية، إنسانية، وجهادية تفرض أن تدفع كل من لديه القدرة على معالجة هذا الملف توطئة لإغلاقه، وليكون ذلك إيذانا بأن جميع ملفات التغييب القسري باتت تأخذ مكانتها التي تستحق من الاهتمام ومن الجهد عند أولي الشأن في العهد الجديد.
في 22 مايو 2025 غادرت الحياة السيدة عفاف مقصود “أم طلال”، وهي المناضلة الوحدوية، وهي الزوجة الصابرة التي بقيت لآخر لحظة في حياتها وهي تنتظر خبرا عن زوجها، ولا يغادرها التفاؤل في أن يفتح في لحظة ما الباب عليها. وقد كانت أخبارا متقطعة تصلها أو ترسل إليها، بأن زوجها من بين المعتقلين الأحياء، وكنا نرى أن تلك الأخبار تتسرب عن عمد، وكلها تستبطن توظيفا سياسيا، وأخلاقيا يستهين بحال الأسرة ووضعها.
لقد التزم أبو طلال طوال حياته النضالية ضد النظام البعثي منذ العام 1964 – تاريخ تأسيس الاتحاد الاشتراكي ـ النضال السياسي ضد هذا النظام الذي خان وغدر بالموقف الشعبي الذي تفجر عقب وقوع جريمة انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة، وكان الشعار الدائم والمستقر لكل هذا الموقف هو دحر الانفصال وإعادة الوحدة ، وإطلاق مسيرة بناء الوحدة لهذه الأمة ، وحتى حينما تجاوب الاتحاد الاشتراكي ـ شأنه شأن معظم القوى السياسية السورية ـ ولبعض الوقت مع الشعارات التي أطلقها حافظ الأسد بالانفتاح على الشعب والالتزام بإرادته، كان أبو طلال ومعه ثلة من قيادات الاتحاد ضد هذا الموقف، ما جعله خارج حزب الاتحاد الاشتراكي لعدة سنوات. وقد عانى وهو قاض ـ زمن الأسد الأب ـ من مرارة السجن، وأخرج من سلك القضاء منتصف الثمانينات، ثم حينما لوحق مجددا تخفى وبقي ملاحقا لا يعرف له مستقر ولا مقام لسنوات طويلة.
ولم يتغير موقفه بشأن التمسك بالنضال السياسي الجذري ضد نظام الأسد الابن، في محاولة لتجنيب سوريا أخطار الصراع العسكري، لكن النظام الأسدي البائد كان عصيا على أي استجابة، وإلى حين تم خطف “أبو طلال ” وتغييبه، كان متمسكا بهذا النهج.
لكن ابنه الشهيد الدكتور طارق الناصر، اختط طريقا آخر، طريق الجهاد المسلح، فرحل أولا إلى العراق لمواجهة قوات الاحتلال الأمريكي، ثم قضى فترة من الزمن في سجون النظام الأسدي، قبل أن يلتحق بفصائل المجاهدين ويستشهد في معركة بمنطقة اعزاز في 17 أيلول / سبتمبر 2012، أي قبل سنة ونيف من اختطاف والده.
لقد رافقت هذه الأسرة المناضلة المجاهدة في كل مراحل حياتها، وكنت وأبو طلال على الطريق نفسه، في النضال داخل سوريا، وفي الالتزام القومي على امتداد أمتنا العربية، وكما عملنا معا في السياسة والتنظيم، عملنا معا فيما صدر عنا من فكر سياسي، وكنت استشعر خطورة تحركه ونشاطه ومواقفه وهو يعيش تحت سلطة الأسد في سوريا، فيما أنا خارجها، وكنت على يقين أنه حين اختط لنفسه هذا الطريق مع مجموع إخوانه في حزب الاتحاد الاشتراكي، وفي هيئة التنسيق الوطنية، كان يدرك هذه المخاطر، لكنه كان شديد الإيمان بضرورة البقاء متمسكا بهذا الخيار باعتباره التحدي الأقسى لمنطق النظام الأسدي الذي كان يدعي أنه ليس هناك قوى سياسية داخل سوريا التي يسيطر عليها تعمل من أجل تغيير وتحول سلمي يوقف معاناة الشعب السوري، وقد دفع ” أبو طلال ثمن هذا الموقف والخيار، ودفع معه العشرات بل والمئات من المناضلين السورين الثمن، وكلهم باتوا مغيبين لا نعلم عنهم شيئا، منهم الدكتور عبد العزيز الخير، اياد عياش ، ماهر طحان، وآخرون كثر من رفاقهم وإخوانهم.
هذا التاريخ الممتد لهذه الأسرة في مواجهة النظام الأسدي بوجهيه الأب والابن، يجعلها نموذجا للأسرة السورية الوحدوية بطبيعتها، المجاهدة بروحها، المتمسكة بموقف الرفض للاحتلال، والظلم، والفساد، والطائفية.
بعد وقت قصير يكون قد مر على سقوط النظام الأسدي، وكنسه من حاضر سوريا عام كامل، وخلال هذه الفترة تم تبييض سجون الطاغية، وبالتأكيد تم وضع اليد على مختلف السجلات الخاصة بالمعتقلين، والمغيبين، وكذلك من تمت تصفيتهم في سجون النظام البائد، وأسماء هؤلاء الأحبة موزعة بين سجلات السجون والمعتقلات، والمستشفيات، وفي ذاكرة القتلة والمجرمين الذين تم توقيفهم. وإذا كان” قيصر” قد استطاع أن يقدم ذلك الكم من الصور والوثائق عمن تمت تصفيتهم، فهذا يعني أن كل أو معظم ما كان يرتكب من تصفيات موثق، أي يمكن التعرف إليه وكشفه، وإذ كان عدد الذين تم تحريرهم من السجون وأقبية أجهزة الأمن محدودا جدا قياسا لأعداد من كانوا معتقلين ومغيبين، فإننا قد نكون أمام مئات الآلاف من المغيبين، ونحن نسمع بين الحين والآخر حديثا عن اكتشاف مقابر جماعية في المزيد من الأماكن في سوريا.
منذ سقوط النظام الأسدي صار هذا الملف بعهدة ومسؤولية السلطة السورية الجديدة، وفي إطار إبداء الاهتمام بهذا الملف أصدر الرئيس السوري أحمد الشرع في 17 مايو 2025 مرسوما بتشكيل “الهيئة الوطنية للمفقودين”، إنفاذا لشعبة من شعب “العدالة الانتقالية”، وتم تعيين رئيس للهيئة ومجلس مستشارين، وفي تطور مهم تم قبل أيام توقيع إعلان مبادئ بين الهيئة وثلاث مؤسسات دولية هي اللجنة الدولية لشؤون المفقودين، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، والمؤسسة الدولية المستقلة للمفقودين، وذلك بغرض بناء منظومة وطنية دولية متكاملة لمعالجة هذا الملف بشكل يوثق به.
هذا في عمومه تقدم يسجل، وسيكون مرغوبا وباعثا على الثقة أن يتم الإعلان عن كل تقدم تصل اليه الهيئة الوطنية بهذا الشأن، إذ ليس ضروريا أن يتم التكتم في هذا الملف الى حين اكتمال مكوناته، بل إن الإعلان عن أسماء من تأكدت مصائرهم تباعا هو المنهج الذي يجب اتباعه، كما يجب التفريق بين المغيبين قسرا، والمفقودين، وبين من تأكد من السجلات والتحقيقات مصيرهم وبين التعرف على عائدية الجثامين التي يعثر عليها في المقابر الجماعية من خلال القرائن وتحليلات DNA ال “دي إن إي”.
من المهم في التحقيقات الجارية مع رموز النظام البائد أن يتم تتبع مصائر الشخصيات السياسية العامة التي تم اختطافها وتغييبها، ومن هؤلاء أبو طلال ورفاقه، فمن خلال هذا الكشف يتم تفكيك وإعادة تركيب منظومة القتل والتصفية التي انتهجها ذلك النظام.
لا شك أن ملف المغيبين ملف انساني بالدرجة الأولى، لكنه أيضا ملف اجتماعي وسياسي، فبدون معالجته لن توجد الأرضية الضرورية للسلام الاجتماعي، وفي الوقت نفسه، فإن التلكؤ والمماطلة والتباطؤ في معالجة هذا الملف يحمل في طياته فرص توليد نظام جديد يرتكب النوعية نفسها من الجرائم التي كان النظام البائد يرتكبها، مادام الوصول إلى الحقيقة وإلى الحقوق، وبالتالي إلى المحاسبة والقصاص يحتاج إلى وقت ممتد يفتقد الناس معه مفهوم الردع وآثاره.
كل ما سبق ذكره بشأن المغيبين يخص المغيبين لدى النظام الأسدي البائد، وهم النسبة الكبرى من المغيبين، وعليهم تسلط الأضواء بعد سقوط ذلك النظام، لكن هناك مغيبين لدى تنظيم قسد، ولدى داعش، وهذا ملف خاص باعتبار هذه المناطق لم تخضع بعد لسلطة الحكومة السورية، وبالتالي لا يمكن الحسم في مصير المعتقلين لدى هذين التنظيمين.
من أجل المجتمع السوري الذي نتطلع إليه، من أجل الأسر السورية التي يعصف بها الأمل والحيرة والترقب، من أجل الثقة بالمستقبل، وبمن يتقدم الصفوف على طريقه، ومن أجل الأمن والأمان والسلام الاجتماعي، لا بد أن يرتقي اهتمام الجهات المعنية بهذا الملف إلى المستوى المطلوب، المستوى الذي يلبي تطلعات هذه الأسر، ويعطيهم الأمل الملموس بالتعرف على الحقيقة، وبفرصة الوصول إلى العدالة قبل أن يغادروا هذه الدنيا. ولا بد أن يجري السعي في هذا الملف بشفافية ووضوح بحيث يشعر كل سوري بأنه مطلع ومتابع لكل خطوة ولكل تقدم يتم تحقيقه في هذا الملف.




