
هناك شيء مُربك في المزاج السياسي السوري خصوصاً خلال العقود الأخيرة، ما زال يتفاقم حتى الآن. مزاجٌ مُعتَكرٌ بعوامل الحرب والاستبداد، يترافق في اصطفافاته مع الانقسامات الهوياتية. فمن يتأمل اللغة العامة للمجتمع السوري، من الشارع إلى نخب المثقفين، سيجد أن الاعتدال لم يعد فضيلة كما هو في معظم الثقافات، لكنه تحوَّل إلى موقف منبوذ.
من لا يمارس التطرّف في مواقفه، أو لا يصنّف المختلفين في خانة الأعداء، يَظهر في نظر جمهور واسع شخصاً متردّداً وهشّاً أو غير جدير بالانتماء. هذا الانقلاب القيمي ليس وليد اللحظة. إنه امتداد طويل لعقلية “جاهلية” بتعبير التراث الإسلامي، لكنها هنا لم تعد جاهلية بسيطة إنما تنطوي على الكثير من التعقيد. فلا قبائل متناحرة على المرعى والماء اليوم، إنما تناحر ناتج عما يمكن وصفه بأنه “جاهلية سياسية”. عقلية تمنح الشرعية للموقف المتشنّج فتُعلي من قيمته وتعتبره أصدق بل وأنبل من الموقف المتوازن. حتى ليبدو أن المتطرف صادق لأنه يصرخ، والمعتدل مشكوك فيه لأنه يفكر بصوت هادئ بعيداً عن الانتماء للهويات الفرعية.
تصلح تلك اللحظة في التاريخ، إن كانت حقيقية أو من مستلزمات العمل الدرامي، نموذجاً معقولاً لفهم المشهد السوري اليوم.
من يتابع النقاشات السورية، في الداخل أو في الشتات، يلاحظ ذلك الانتباج الهوياتي المتزايد. كثرُ من أفراد كل جماعة يقدّمون أنفسهم بوصفهم الأكثر صواباً والأكثر مظلومية، والأدهى والطريف معاً “الأكثر تحضُّراً”. تقوم هذه الهوية المتورّمة غالباً على قاعدة واحدة، أنا الضحية الحقيقية، والآخر إمّا ضحية مُتخيّلَة، أو هو مبالغ في مظلوميته. هذا النمط ليس حكراً على السوريين، فكل المجتمعات التي ضعفت فيها الدولة واتّسع فيها العنف سلكت المسار نفسه. رأينا ذلك في البلقان في التسعينيات، حين صار كل شعب من شعوب المنطقة هو “الضحية الوحيدة”، وغرق الجميع في سباق مظلوميات لا ينتهي. السوريون يكررون اليوم المنطق ذاته بعد حرب امتدت لسنوات وخلّفت ضحايا بمئات الآلاف، ومع ذلك ما تزال اللغة ذاتها تُعاد دون أدنى تفكير في النتائج الكارثيّة لهذا الخطاب.
حين قدّم الأديب السوري ممدوح عدوان مسلسل “الزير سالم”، لم يقدّمه كملحمة ثأر فقط، إنما بدا أنه، إضافة لخطوطه الدرامية، يقدم قراءة في العقل السياسي العربي خلال تلك الفترة. “حرب البسوس” استمرت أربعين عاماً لأنها كانت معلّقة على شرطٍ يستحيل تحقيقه. حين سُئلت اليمامة ابنة كليب عما تطلبه مقابل دم أبيها، أجابت بصَلَف المجروح “أريد أبي حيّاً”. أي أنها تطلب ما يستحيل تحقيقه، فتَضمَّن شرطها، ربما دون أن تقصد، استمرار الحرب.
تصلح تلك اللحظة في التاريخ، إن كانت حقيقية أو من مستلزمات العمل الدرامي، نموذجاً معقولاً لفهم المشهد السوري اليوم. هناك مجموعات من السوريين تريد للزمن أن يعود ومعه الضحايا. وأخرى تريد العدالة الكاملة والمتساوية دفعة واحدة. وثالثة تريد انتصار هويتها الخاصّة قبل أي سلام. ومعظم هذا يندرج ضمن منطق اليمامة، طلب المستحيل، ما يؤدي تلقائياً إلى تثبيت دورة العنف بحيث تصبح نهاية حرب الهويّات (القبائل) أمراً مؤجلاً.
حسب المختصين، جزء من تفسير هذه الظاهرة يعود إلى ما يمكن تسميته بسيكولوجيا “الوضوح الزائف”. فالمتطرف يقدم موقفاً بسيطاً ومباشراً، لا يحتاج إلى مجهود ذهني. الأبيض مقابل الأسود والخير ضد الشر. أما المعتدل، فيقدّم مناطق متدرجةً تتطلب تحليلاً، والأهم أنها تتطلب شجاعة في النظر إلى الأخطاء الذاتية والمسؤولية. وهذا أمر لا يميل إليه جمهور عانى الصدمة من كل ما جرى، وفقدَ الثقة بكل من هو مختلف. وتأكيداً على ذلك، تُظهر الكثير من الأبحاث في علم النفس السياسي أن المجتمعات الخارجة من العنف تميل إلى تبجيل الشخصيات الحادّة لأن الحدة تمنح شعوراً زائفاً بالأمان. فيبدو التشدد وكأنه اختبار للولاء وثباتٌ “مع الجماعة”. هكذا يصبح الاعتدال مشبوهاً ليس لأنه موقف خاطئ، إنما لتهديده لتماسك الهوية الفرعية.
في هذا السياق تماماً، صعد المتطرفون القوميون في صربيا وكرواتيا بعد الحرب. السوريون ليسوا خارج هذه القاعدة. فالصدمة الجماعية والحقد المتراكم وفقدان الدولة، على الأقل فقدان الثقة بها، جعلت التشدد يبدو طريقاً مختصراً نحو الكرامة. وبدا الاعتدال على أنه ليونة غير محمودة. بينما تُبيّن الكثير من النماذج أن هناك تجارب عالمية كسرت هذه الحلقة. بعد سقوط نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، كانت الرغبة في الانتقام منطقية. لكن نيلسون مانديلا وكبير الأساقفة ديزموند توتو رفضا هذا المنطق.
لم يطلب الرجلان أن يعود الموتى، ولم يطلبا في يوم واحد محوَ ظلمٍ دام قرابة قرن كامل. إنما قبِلا “عدالة ناقصة” لكنها قابلة للتطبيق، وكانت النتيجة أن بلداً خرج من العنصرية دون حرب جديدة. كان ذلك يعني تطبيق محاسبة قابلة للتنفيذ بدلاً من عدالة مستحيلة. على العكس من النموذج السابق، فشلت بعض دول يوغسلافيا السابقة في تجاوز منطق الثأر. فحتى اليوم، بعد ثلاثين عاماً، ما تزال اللغة العامة مشبعة بالتخوين والهويات المتصلبة والضغائن. تماماً كما حدث في حرب البسوس. أربعون عاماً من الموت بلا نتيجة تُذكَر.
في حرب البسوس، اكتشفت القبائل، متأخِّرةً أربعون عاماً، أن الحرب لم تحقّق شيئاً، وأن الدم الذي سُفك لم يحمِ كرامة أحد، ولم يبنِ مُلكاً لأحد.
السوريون اليوم يقفون بين النموذجين: إما جنوب أفريقيا أو يوغسلافيا. والحل هنا لن يأتي سوى في تغيير البنية التي تنتج التطرف. ولكي يحدث ذلك، لا بد من استعادة الدولة قدرتها على احتكار العنف. فعندما يشعر الناس بالأمان، يتراجع التشدد تلقائياً. فالدولة الحديثة التي يطلبها السوريون، في حالتنا اليوم، لا يجب أن تكون مجرد دولة وحكومة، إنما أقرب ما تكون، في هذا الجانب، إلى جهازٍ لوقف دورة العنف والثأر.
يجب الاعتراف المتبادل بالمظلوميات، حتى لو كانت متباينةً على أكثر من مستوى. فمن يعترف بالخطأ لا يخسر، بالعكس، يصبح أكثر قدرة على الدفاع عن قضيته. نريد محاكمات؟ نعم. لكن وفق إمكانية واقعية، بملفات واضحة وجرائم ثابتة ضمن إجراءات قانونية، دون طلب المستحيل “اليَماميّ”. والأهم هنا مواجهة الثقافة التي تمجّد الغلوّ وتستهزئ بالاعتدال. فالمجتمعات التي نهضت بعد الحروب، نهضت حين جعلت الاعتدال جزءاً من الثقافة الوطنية.
في حرب البسوس، اكتشفت القبائل، متأخِّرةً أربعون عاماً، أن الحرب لم تحقّق شيئاً، وأن الدم الذي سُفك لم يحمِ كرامة أحد، ولم يبنِ مُلكاً لأحد. للأسف ما زال كثير من السوريين اليوم، مثل اليمامة، يطلبون المستحيل، مما يضمن استمرار الحلقة المفرغة. إذا أردنا مستقبلاً مختلفاً، فعلينا الاعتراف بأن الاعتدال ليس ضعفاً، وأن التشدد ليس بطولة ولا شجاعة، وما هو في عمقهِ سوى هروبٌ من العدالة الحقيقية وزيادة الابتعاد عن مواجهة استحقاقات بناء الدولة. وعلى الأغلب هو يأتي من أناس بعيدون عن الخطر المباشر، غالباً يقرؤون الواقع بطريقة مغلوطة، وللأسف أحياناً بطريقة تنطوي على شيء من الوضاعة.
إعادة بناء سوريا لن يتم عبر التصفيق للمواقف الحادة واعتبارها فضيلة، لكنه سيتم حتماً عبر شجاعة الاعتراف، وجرأة التنازل، وقدرة المجتمع على تجاوز جاهليةٍ سياسيةٍ طال أمدها. سوريا لا تحتاج إلى “يمامة” جديدة، لكنها تحتاج إلى دولة توقف الحرب المتنقّلة في القلوب والعقول. فإذا لم يحدث هذا التحول، سنظل نعيد كتابة “حرب البسوس” بأسماء جديدة في بلدٍ يتآكل كل يوم دون أن نفكر بعصمة الدم ولا استعادة الحياة. حين نفهمُ أن الاعتدال ليس مصالحة مع الظلم، إنما الأداة الأنجح لبناء دولةٍ تستطيع أن تحمي المختلفين قبل المتشابهين، حينها ربما “سنصير شعباً”.
المصدر: تلفزيون سوريا






