
بعد سقوط نظام الأسد، لم يعد سؤال الهوية الوطنية نقاش ثقافي أو سياسي، وإنما تحول إلى هاجس جامع يلامس تفاصيل الحياة اليومية للسوريين.
فالانقسامات الطائفية والمناطقية والأيديولوجية التي تفاقمت خلال السنوات الماضية لم تحدث شرخاً اجتماعياً عابراً وإنما أعادت أيضاً تشكيل معنى الانتماء والذات الجماعية بصورة متباينة ومتصادمة أحياناً. وفي خضم هذا المشهد المعقد، تبرز الدراما السورية بوصفها مجالاً ثقافياً تتقاطع فيه الذاكرة والخيال والواقع، لا باعتبارها ترفيهاً مرئياً، وإنما باعتبارها أداة قادرة على سرد التجربة الجمعية وإعادة تخيل الروابط التي تصوغ العيش المشترك وذلك بفضل قدرتها على الوصول إلى جمهور واسع، كونها تمتلك القدرة على إعادة تمثيل القصص والشخصيات واللحظات التي تشكّل الوعي العام، وتقديم صور بديلة للعلاقات بين السوريين، بما يتجاوز الانقسامات ويسهم في إعادة بناء الهوية الوطنية وتعزيز الانتماء بوصفه فضاء مشتركاً.
الدراما كحاضنة للذاكرة والهوية
لا تقتصر الدراما على كونها وسيلة للترفيه وإنما تمثل حاملاً رمزياً لذاكرة الشعوب وتجسيداً للهويات الجمعية وفي الحالة السورية، يمكن القول إن الدراما أدت خلال العقود الماضية دوراً مزدوجاً؛ فمن جهة، أسهمت في ترسيخ روايات سلطوية دعمت خطاب نظام الأسد المخلوع، حيث صوّرت معارضيه في صورة “إرهابيين” أو “دواعش” يعيشون في بيئات مغلقة وعنيفة وأبرزها (روزنا وتحت سماء الوطن) والتي تمجد انتصارات النظام وتصور ميليشياته كمدافعين عن الوطن، بينما تشوّه صورة المعارضين من خلال تقديمهم في صورة نمطية سلبية ومن جهة أخرى، برزت أعمال مستقلة وواقعية نسبياً حاولت عكس صورة المجتمع من خلال التركيز على تجارب السوريين في اللجوء والتنقل بين دول الجوار كلبنان والأردن، أو في المهجر الأوروبي، مثل (غداً نلتقي
وعبور ومغتربون) وهو ما أوجد سرديات بديلة تسعى لتوثيق المعاناة اليومية للسوريين وإلى جانب ذلك، ظهرت أعمال درامية محدودة تناولت الثورة السورية وقضاياها بشكل غير مباشر، مثل (الولادة من الخاصرة وكسر عضم وابتسم أيها الجنرال)، غير أن هذه الأعمال تبقى قليلة مقارنة بالإنتاج الدرامي الذي انحاز إلى رواية الأسد البائد ونتيجة لذلك، يمكن القول إن الدراما السورية تقف اليوم أمام اختبار حقيقي ودقيق، يتمثّل في قدرتها على الإسهام في إعادة بناء الهوية الوطنية على نحو يراعي تعدديّة المجتمع السوري وتنوّع روافده الثقافية، كما يراعي تطلعات أفراده إلى مستقبل جمعي يتجاوز جراح الماضي وانقساماته.
وتنبع أهمية الدراما في هذا السياق من قوّتها الناعمة وقدرتها على ملامسة الجمهور على اختلاف طبقاته ومناطقه، ذلك لأنها لا تتوجه إليه عبر خطاب سياسي مباشر أو دعائي، وإنما من خلال سرديات إنسانية قادرة على التأثير في الوعي الجمعي بطريقة أكثر عمقاً وهدوء، وحيث يمكن للدراما أن تقدم شخصيات تعبر عن مختلف المكوّنات الاجتماعية للسوريين بصورة إنسانية متوازنة، بعيدة عن التحيّز أو الشيطنة أو التمجيد، فإنها تظهر كذلك ما يجمع بينهم من تفاصيل الحياة اليومية؛ مثل الألم المشترك الذي عاشه السوريون والأمل في التعافي وبناء سوريا الجديدة، والسعي لتحسين الشروط المعيشية في ظل واقع معقد وإرث ثقيل خلّفه نظام الأسد البائد وعلاوة على ذلك، تستطيع الدراما أن تؤدي دوراً نقدياً فاعلاً عبر تفكيك خطابات الكراهية والعنف، سواء من خلال السخرية الذكية أو الرموز الفنية الهادئة، الأمر الذي يجعلها وسيطاً اجتماعياً يعيد تذكير الأفراد بأن ما يجمعهم من روابط إنسانية ووطنية أعمق بكثير مما حاول نظام البعث ترسيخه من حواجز وانقسامات وفي هذا السياق، برزت خلال الثورة السورية سرديات درامية مغايرة قدّمتها قوى الثورة، اعتمدت على شهادات الأفراد المنشقّين وتجارب المجتمعات التي كانت في قلب الصراع لا سيما وأنها لم تكن محاكاة فنية للواقع، وإنما كانت امتداداً مباشراً له، ويشكل فيلم “فور سما” مثالاً مركزياً على هذا النمط من الإنتاج، حيث ظهر بوصفه وثيقة حية تعكس التجربة الإنسانية للسوريين بدل تمثيلها أو إعادة صياغتها، وقد أظهر هذا اللون من الدراما هشاشة السرديات التي روّجها النظام، وهو ما دفعه لاحقاً إلى توسيع هوامش الحركة أمام بعض الفنانين ورفع سقف التعبير نسبياً في محاولة لاستعادة صدقيته.
يمكن للدراما في المرحلة المقبلة أن تنهض بدور مغاير يقوم على ثلاثة مستويات متداخلة أوّلها مراجعة الماضي ونقد رواياته الرسمية بما يفتح المجال لمصالحة أوسع مع الذاكرة الجماعية.
ديناميات الهوية الوطنية عبر السرد الدرامي
تجمع الأدبيات المعاصرة على أن الهوية الوطنية ليست بنية جامدة أو جوهراً نهائياً، وإنما هي عملية تاريخية مستمرة تتشكّل عبر تفاعل الذاكرة الجماعية مع التحولات السياسية والاجتماعية. وفي الحالة السورية، لعبت الدراما دوراً محورياً في هذه العملية، غير أن هذا الدور كان في كثير من الأحيان موجهاً لخدمة خطاب نظام الأسد التي سعت إلى صياغة صورة نمطية عن المجتمع فعلى سبيل المثال دمشق، العاصمة التاريخية لسوريا، لم تُصوَّر في الدراما الرسمية كمركز حضاري متنوع، وإنما اختزلت في صورة كاريكاتورية تقوم على “السروال والشنب” ونموذج رجولة متسلّط مرتبط بالاستزلام وفرض الهيمنة داخل الحي الواحد، وقد ركزت هذه الصورة على صراعات صغيرة بين أبناء الحارة، وكأن المجتمع الدمشقي محكوم بمنطق القوة العضلية والزعبرة، في حين حصرت صورة النساء ضمن فضاء “حريمي” مغلق يعكس ثقافة الجواري أكثر مما يعكس الواقع الاجتماعي الدمشقي الحقيقي وبالمثل، لم تكن حلب أفضل حالاً في التمثيل الدرامي، حيث عُرضت ثقافتها بأسلوب مبتذل يركز على شخصية “كشيشة الحمام” أو شخصية مرتبطة بالمال والتجارة، في اختزال فجّ لمدينة ذات طبقات اجتماعية متنوّعة وتراث صناعي وثقافي غني، مما رسخ في الوعي العام صوراً متحيّزة بعيدة عن التعدد الحقيقي للمجتمع الحلبي، مع تشويه للهجتهم الأصيلة التي يفاخرون بها، أما المرأة المحجبة فغالباً ما اختزلت في صورة الفتاة الفقيرة والمتخلفة، بينما جرى التعامل مع الطبقات الشعبية وكأنها بالضرورة غارقة في الجهل والتهميش، هذه التنميطات أسهمت في تعميق الفجوات المجتمعية، ورسخت صورة نمطية مشوّهة عن المجتمع السوري بتعدديته وغناه.
في المقابل، يمكن للدراما في المرحلة المقبلة أن تنهض بدور مغاير يقوم على ثلاثة مستويات متداخلة أوّلها مراجعة الماضي ونقد رواياته الرسمية بما يفتح المجال لمصالحة أوسع مع الذاكرة الجماعية. وثانيها تقديم الحاضر بما يحمله من أزمات وتحوّلات عبر سرديات صادقة تعكس تعقيدات الواقع وأسئلته الكبرى حول الانتماء والهوية. أمّا المستوى الثالث، فهو تخيّل المستقبل من خلال إنتاج صور بديلة لـ”سوريا الممكنة”؛ سوريا التي تتّسع لأبنائها جميعاً ضمن لغة جامعة للتعايش، ويجد هذا التصور أساسه النظري في مايطرحه بنديكت أندرسون في نظريته عن “الأمة المتخيّلة”، حيث تبنى الهوية الوطنية عبر الرموز والسرديات المشتركة، فالدراما تمتلك القدرة على إنتاج هذه اللغة الرمزية المشتركة من شخصيات وأمكنة ولهجات وعادات بما يسمح للسوريين، رغم اختلافاتهم، بالانتماء إلى فضاء تخييلي واحد، ويتجلّى ذلك في إعادة تقديم المدن والأرياف والسواحل بوصفها أجزاء حية من وطن واحد، وفي الاحتفاء بعناصر الحياة اليومية كالأغاني والأمثال والطقوس التي تمثل ذاكرة مشتركة عابرة للانقسامات، كما أن بناء شخصيات درامية متوازنة تعكس التعدد الديني والثقافي في سوريا، يمكن أن يسهم في ترسيخ هوية وطنية جامعة، تعيد الاعتبار لقيم العيش المشترك في الوعي الجمعي.
يمكن النظر إلى الأعمال الدرامية كآلية لإنتاج “سوريا الممكنة”، تقوم على قيم التعددية والتعايش، وتعمل على ترسيخ قواعد الهوية الوطنية الجامعة ضمن المخيال الجمعي بما يسهم في إحياء الذاكرة المشتركة على نحو يسمح بإعادة تخيل المجتمع كمساحة ممكنة للعيش المشترك لا ساحة للصراع.
خاتمة
يتضح من خلال هذا التحليل أن الدراما السورية تمثل أداة معرفية وثقافية استراتيجية في إعادة تشكيل الهوية الوطنية وتعزيز الوعي الجمعي كونها لا تقتصر على الوظيفة الترفيهية، وإنما تتجاوز ذلك لتصبح وسيلة لتفكيك الخطابات الأحادية وإعادة إنتاج تمثيلات رمزية تجمع بين التجارب التاريخية والحالية والتطلعات المستقبلية للمجتمع السوري وذلك من خلال إنتاج سرديات دقيقة وشخصيات تعكس تنوع المكونات المجتمعية، وتسليط الضوء على المشتركات اليومية كالخبرات والمعاناة والعلاقات الاجتماعية، كما تستطيع الدراما تشكيل فضاء رمزي مشترك يعيد بناء الانتماء الوطني ويقلل من تأثير الانقسامات الاجتماعية والسياسية. وعليه، يمكن النظر إلى الأعمال الدرامية كآلية لإنتاج “سوريا الممكنة”، تقوم على قيم التعددية والتعايش، وتعمل على ترسيخ قواعد الهوية الوطنية الجامعة ضمن المخيال الجمعي بما يسهم في إحياء الذاكرة المشتركة على نحو يسمح بإعادة تخيل المجتمع كمساحة ممكنة للعيش المشترك لا ساحة للصراع.
المصدر: تلفزيون سوريا






