
ليست أبدًا دعوة عفوية، ولن تكون، بل هى «دعوة مسمومة»، تلك الدعوة التى أرادت أن تتخذ من بهجة المصريين وسعادتهم بافتتاح «المتحف المصرى الكبير» مدخلًا ووسيلة، لإعادة إحياء «دعوة كارثية» أخذت تتردد مرات ومرات على مدى تاريخنا الطويل، تُطالب بـ «انعزالية مصر» عن عمقها الإستراتيجى العربى. تقول هذه الدعوة: «مالنا ومال العرب»، «نحن مصريون.. وهم عرب»، وتقول بأن «خلاص مصر من أزماتها رهن بابتعادها عن العرب، ورهن بانكفائها على نفسها كى تستطيع البناء والنهوض». مثل هذه المقولات والدعوات التى تظهر الآن والتى بلغت ذروتها عقب افتتاح «المتحف المصرى الكبير» بالدعوة إلى نزع «العروبة» من اسم مصر لتصبح «جمهورية مصر» بدلًا من أن تبقى «جمهورية مصر العربية»، ليست جديدة، كما أشرنا، ولن تكون الأخيرة، وهى بالمناسبة ليست «دعوة مصرية خالصة»، ولكنها «دعوة ملوثة» بنيات أعداء مصر وأعداء العرب، سواء كان هؤلاء الأعداء هم كيان الاحتلال الإسرائيلى ومن يوالونه من جماعات أو تيارات عربية سبق اختراق وعيها، أو كانوا الاستعمار الغربى القديم أو الجديد. كل هؤلاء يدركون، أن مصدر الخطر على مصالحهم وعلى مشروعاتهم التخريبية هو أولاً مصر القوية الموحدة، وهو ثانيًا تلك المنطقة التى تقع فى «الجنوب الشرقى للبحر المتوسط»، تمامًا كما حددتها مقررات «مؤتمر هنرى كامبل بنرمان» فى عام 1907، وهو المؤتمر الذى عُقد خصيصا فى لندن 1905 – 1907، للإجابة عن سؤال محدد هو: «كيف يمكن حماية المستعمرات الغربية»، وجاءت الإجابة على النحو التالى: المصدر الأساسى للخطر على المستعمرات الغربية يأتى دائمًا ويتركز فى منطقة الجنوب الشرقى للبحر المتوسط (مصر والشام.. أى مصر ودول الشام الكبير، الذى قسموه إلى سوريا ولبنان وفلسطين والأردن ومن خلفه العراق). إن السبب الأساسى لكون هذه المنطقة تعتبر «مصدر الخطر» على مصالحهم ومستعمراتهم، يرجع لكونها منطقة «يعيش فيها شعب واحد، تجمعه لغة واحدة ودين واحد، وتوحده مشاعر وآمال وتطلعات تاريخية واحدة». هنا يتحدثون عن كون هذه المنطقة تاريخيًا هى «القلب النابض للحضارة العربية – الإسلامية» التى نهلت منها وانطلقت الحضارة الغربية. أن القضاء على هذا الخطر يكمن فى ثلاث سياسات: أولها، فصل منطقة الشام (المشرق العربى) عن مصر، بزرع شعب غريب عنها فى فلسطين، بإقامة دولة يهودية، وتعمل للحيلولة دون وحدة هذه الأمة، والسعى دائمًا من أجل تفكيكها. وثانيها، الحيلولة دون توحد شعب ودول هذه المنطقة، والإمعان فى إعادة تقسيمها إلى دويلات صغيرة عرقية ودينية وطائفية ومناطقية، يختفى معها اسم «العروبة» نهائيًا كهوية جامعة لصالح هويات «فرعية» و«هامشية»، يستحيل إعادة تجميعها وتوحيدها مرة أخرى. وثالثها، الحيلولة بينها وبين العلم، وإغراقها دائمًا فى مجاهل التخلف. هذه المقررات كانت موجودة دائمًا فى «الوعى الغربى» والمشروعات الغربية والصهيونية فى كل لحظة كانت فيها الأمة العربية عازمة على النهوض، وفى كل لحظة كانت تواجه فيها انتكاسات، فقد ظهرت عندما توحد الغرب الاستعمارى لكسر مصر وأسطولها البحرى، وكانت معركة «نافارين» البحرية، التى تجمعت فيها كل الأساطيل الغربية وتمكنت من تدمير الأسطول المصرى، ليس دفاعًا عن الإمبراطورية العثمانية، لأنهم هم من دمروها وقسموها بينهم فيما بعد، ولكن كان الهدف هو منع ظهور مصر كقوة إقليمية كبرى، يكون فى مقدورها تهديد مصالحهم. هنا قاموا بتخيير محمد على بين: إما تدمير مشروعه النهضوى بالكامل، وإما أن ينعزل بمصر وينهى أى تطلع مصرى بالتواصل مع المشرق العربى، مقابل توريثه وأحفاده مٌلك مصر، وكان لهم ما أرادوا. تجددت المؤامرة بوضوح شديد عندما تجمعت كل القوى المعادية، ومعها أطراف عربية تخشى من «مصر قوية»، لإسقاط أول تجربة وحدوية عربية فى العصر الحديث، أى وحدة مصر وسوريا تحت اسم «الجمهورية العربية المتحدة» فى 22 فبراير 1958، خاصة أن العراق شهد ثورة عاتية بعد أشهر قليلة، وبالتحديد فى يوليو 1958 أسقطت الحكم الملكى الموالى للغرب، والذى شارك فى تأسيس «حلف بغداد»، كانت خشيتهم لا حدود لها أن تتوحد الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا) مع العراق الجمهورى الجديد، وربما مع لبنان والأردن، عندها ستكون فلسطين هى الهدف، وعندها كان يجب إسقاط هذه التجربة. وفى عام 1966، وعندما ردت مصر على إجراءات كيان الاحتلال الإسرائيلى بتحويل مجرى نهر الأردن، بالدعوة إلى انعقاد أول مؤتمر قمة عربى للرد، وقرر هذا المؤتمر تأسيس جيش التحرير الوطنى الفلسطينى، الذى تلاه تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، وتشكيل قيادة عسكرية عربية مشتركة، ردت الولايات المتحدة، وعلى لسان رئيسها ليندون جونسون، بمطالب مضمونها «فرض الوصاية على مصر وعزلها عن عمقها العربى»، فقد طالب جونسون الرئيس جمال عبدالناصر بمطالب مجحفة أبرزها: انعزال مصر عن العرب والتخلى عن الدعوة الوحدوية العربية، وتخفيض الجيش المصرى، وتصفية الصناعة العسكرية المصرية، خاصة صناعة الصواريخ، وإلغاء القيادة العسكرية العربية المشتركة»، وعندما رفض عبدالناصر الاستجابة، كان الرد الأمريكى هو «تدمير التجربة المصرية الناهضة، التى يقودها جمال عبدالناصر» بالعدوان الإسرائيلى المدعوم أمريكيًا عام 1967.
الآن تتجدد المحاولة بالدعوة إلى إنهاء عروبة مصر مع تجدد الأمل المصرى بإعادة إحياء الحضارة المصرية القديمة، خشية أن يكون هذا الوعى الجديد حافزًا لإعادة بناء مشروع وطنى مصرى قوى، يكون ركيزة لمشروع وحدوى عربى، يقود دعوة التكامل الإقليمى مع جوارنا الحضارى فى تركيا وإيران وربما باكستان، لمواجهة خطر المشروع الإسرائيلى التوسعى فى الشرق الأوسط. «دعوة خبيثة»؟.. نعم.. لكن من يطالبون بها إما أنهم يجهلون أو يعرفون أن الدعوة إلى انعزال مصر لن تقتصر على الانعزال، بل يمكن أن تضع مصر على خريطة مشروعات التقسيم الحالية، التى تهدد وحدة أراضى سوريا والسودان ولبنان وليبيا والعراق، وغيرها من الدول العربية والإقليمية. لذلك يجب أن يكون الرد بإعادة تثوير الوعى الوطنى المصرى، لتأكيد أن «العروبة هى الحل» للانخراط فى مشروعنا الجديد للنهضة.
المصدر/ جريدة الأهرام
ملاحظة:
إذا حظي هذا المقال باهتمامك، ورأيت ما فيه نافعا لوعي الناس، فساهم في نشره عبر مختلف وسائل النشر والتواصل الاجتماعي التي تتعامل معها.
د. مخلص الصيادي






