من سيُشكّل الحكومة العراقية؟

إياد الدليمي

انتهت الانتخابات النيابية العراقية، بما رافقها من سجالٍ تارةً، وتهديد ووعيد تارةً أخرى. انتهت الانتخابات وخابت توقّعات كثيرين ممّن كانوا يؤكّدون في كل تصريح أن الانتخابات لن تُجرى، وأن لدى الولايات المتحدة خطّةً لمعالجة النفوذ الإيراني الذي تصفه واشنطن بـ”الخبيث” في العراق. جرت الانتخابات بسلاسة وبطريقة منظّمة (ظاهريا على الأقلّ)، رغم ما شاب مرحلة ما قبل الانتخابات من تقاطعات وتجاذبات ومالٍ سياسي استُخدم بطريقة ربّما فاقت كلَّ تصور. فالمال في انتخابات تُجرى وفق نظام انتخابي يُدعى “سانت ليغو”، اعتمدته الكتل السياسية لضمان بقائها، يُعدّ ضرورةً لا غنى عنها.
وكما جرت العادة، لا حسم في أيّ انتخابات جرت في العراق منذ انتخابات 2005 وحتى انتخابات 2025. فالحسم مؤجّل لما بعد انعقاد جلسة البرلمان وتوافق الكتل فيما بينها لاختيار وتسمية رئيس وزراء “شيعي” كما جرى العرف التوافقي، ورئيس برلمان “سُنّي”، ورئيس جمهورية “كردي”، مع العلم أنه لا يوجد نصٌّ دستوريٌّ يقرّ بهذه “التوافقية”.
غياب مقتدى الصدر عن انتخابات 2025 كان فرصة ذهبية لإيران كي تدفع القوى الشيعية المسلّحة إلى ملء الفراغ
ولأن “الديمقراطية” العراقية وُلدت في ظروف غير طبيعية وكانت نتيجة غزو أميركي رافقه اجتياح ونفوذ إيراني على عدة مستويات، فقد أفرزت أيضاً ظواهر غير طبيعية. من هذه الظواهر، على سبيل المثال لا الحصر، أن القائمة التي تفوز بالانتخابات لا تشكّل الحكومة العراقية، وإنما الكتلة التي تتشكل لاحقاً في البرلمان وتكون هي الكتلة الكبرى، فلها الحقُّ في تشكيل الحكومة. جاء ذلك بناءً على تفسير المحكمة الاتحادية بعد انتخابات عام 2010 التي أفضت إلى فوز القائمة العراقية برئاسة إياد علّاوي بالمركز الأول بـ91 مقعداً، غير أن التفسير القانوني منح حقّ تشكيل الحكومة للقائمة الثانية، ائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي.
وفي عام 2021، وبعد فوز التيار الصدري بـ73 مقعداً، عطّلت قوى ما عُرف لاحقاً بـ”الإطار التنسيقي” جهود تشكيل الحكومة، خصوصاً بعدما قرّر الصدر التحالف مع قائمة تقدّم “السُّنية” والحزب الديمقراطي الكردستاني. وانتهى الأمر باشتباكات في المنطقة الخضراء بين سرايا السلام التابعة لمقتدى الصدر وبين مليشيات تابعة للإطار التنسيقي، لينسحب الصدر بعدها تاركاً فراغاً برلمانياً شغلته قوى الإطار، وشكّلت الحكومة العراقية التي يرأسها محمّد شيّاع السوداني. وهكذا باتت القوائم الفائزة لا تقوى على تشكيل الحكومة، في ظلّ هيمنة قوى المال والسلاح على تفاصيل المشهد. وإذا كانت الولايات المتحدة هي من غزت العراقَ وشكّلت عمليته السياسية، فإن إيران هي من اهتمّتْ بالتفاصيل؛ تفاصيل منحتْ أتباعها نفوذاً بات يصعب تخيّل انفكاك العراق عنه. وتدرك القوى الفاعلة في الملف العراقي أن الانتخابات التي جرت يوم الثلاثاء الماضي ستؤسّس لنظام سياسي يستمرّ نحو عشرين عاماً أو يزيد، تماماً كما أسّست انتخابات عام 2005 للنظام السياسي الحالي. ومن هنا جاء الاهتمام الكبير بهذه الانتخابات.
إيران، التي باتت ترى في العراق آخر قلاع نفوذها، أحسنت استغلال غياب مقتدى الصدر ومقاطعته للانتخابات. فقد دفعت القوى السياسية ذات الأجنحة المسلّحة إلى دخول السباق بقوة، وعملتْ قبل الانتخابات في تصفية الأجواء بينها، ودفع بعضها إلى تبنّي خطاب الدولة والمواطنة، وفي مراحل أخرى إلى التخويف من ضياع “حكم الشيعة” في حال لم يشاركوا في التصويت. النتائج التي ظهرت أكّدت أن القوى السياسية الشيعية التي تمتلك السلاح حصدتْ مقاعدَ مهمّةً وصلت إلى نحو 60 مقعداً. وهنا نشير إلى القوى المسلحة فقط، ذات الأجنحة السياسية، من دون احتساب القوى الأخرى مثل ائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي، الذي قد يحصل على نحو 26 مقعداً. في المقابل، فإن القائمة التي شكّلها رئيس الحكومة محمّد شيّاع السوداني، والتي حصدت نحو 47 مقعداً، تُعدُّ قائمةً ذات أغلبية شيعية، لكنّها حظيت أيضاً بدعم سُنّي وبأصوات من بغداد، إذ ما زال كثير من السُّنة يرون أن الدولة (لا الطائفة) هي التي تستحقّ التصويت.
تحالف تقدّم بزعامة محمد الحلبوسي حلّ ثانياً على مستوى العراق بعد تحالف السوداني، وتشير الأرقام إلى أنه قد يحصل على نحو 42 مقعداً بانضمام القوائم الصغيرة المدعومة منه. أمّا القوى السياسية الكردية فقد حافظت على نفوذها وكتلتها، بغضّ النظر عن عدد المقاعد، مع تفوّق واضح للحزب الديمقراطي الكردستاني على حساب الاتحاد الوطني.
نتائج الانتخابات، وكما هو العرف منذ 2005، ليست هي التي تُشكّل الحكومات، وإنما تُفتح بها أبواب التفاوض حول الحصص والمناصب، بينما يبقى مبدأ التوافق هو الحاكم الفعلي للمشهد. غير أن هذه الانتخابات تختلف عن سابقاتها؛ إذ جاءت في ظلّ متغيّرات إقليمية كبيرة، ما يجعل التفاهمات السابقة غير مضمونة اليوم، خاصةً في ظلّ التصريحات الأميركية الرافضة لـ”النفوذ الإيراني الخبيث” في العراق.
حظيت قائمة السوداني ذات الأغلبية الشيعية بدعم سُنّي وبأصوات من بغداد، إذ ما زال جزء من السُّنة يصوّت للدولة لا للطائفة
ويبقى السؤال: كيف ستتعامل الولايات المتحدة مع الواقع الذي فرضته الانتخابات في ظلّ وجود مليشيات ممثَّلة داخل البرلمان؟… كل شيء مرهون بمدى جدّية واشنطن في مسعاها لإنهاء النفوذ الإيراني، من دون إغفال التطوّرات الإقليمية المتصلة بإيران، بين حديث عن مفاوضات تارّةً واحتمالات حرب تارّةً أخرى. هل يمكن للسوداني والقوى السُّنية والكردية تشكيلَ تحالفٍ يمكّنهم من تشكيل الحكومة بعيداً من القوى الموالية لإيران؟… كل شيء ممكن. حتى القوى المسلّحة التي حصدت مقاعدَ قد تشهد انشقاقاتٍ وتحالفاتٍ جديدةً بعد الجلسة الأولى، وكذلك القوى المنضوية ضمن تحالف السوداني.
الخطير في الأمر الآن، والذي لا يرغب كثيرون في الحديث عنه، هو أن القوى الإطارية المعروفة بولائها لإيران تسعى لتكون حاكمةً مطلقةً من خلال مشاورات تجري بين قادتها لتكون هي من يرشّح رئيس الحكومة حصراً، وهي من يشترط عليه كيف تسير الأمور، وأن يعود إلى “الإطار التنسيقي” في كل صغيرة وكبيرة، وأن يتعهّد بعدم تشكيل حزب سياسي منافس، وألا يدخل الانتخابات، وغيرها من الشروط التي تُناقش داخل قوى الإطار.
لذلك، لن تكون المرحلة المقبلة سهلةً، وإذا كانت الحكومات السابقة تحتاج وقتاً طويلاً بعد كل انتخابات كي تتشكّل، فإن هذه الحكومة قد تكون الأكثر تعقيداً، وربّما لا ترى النور بسهولة، خاصةً أن مرحلة التقاطع بين أجندات واشنطن وطهران في العراق قد وصلت إلى نهاية الطريق، وبالتالي لا بدّ من تفكيك حلفِ المصالح المشتركة الذي ظلّ قائماً في العراق طيلة أكثر من عقدَيْن من الزمن.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى