
صحيحٌ أن مؤتمر “فلسطين وأوروبا…” الذي نظّمه أخيراً المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات (فرع باريس) وكرسي التاريخ في “الكوليج دو فرانس”، أكاديمي، وشارك في تقديم أوراقه مؤرّخون وباحثون وأساتذة جامعيون، إلّا أنّ لتطعيم هذا النشاط المعرفي العلمي بحضور بعضٍ من أهل الخبرة في العمل السياسي والدبلوماسي كثيرٌ من الفائدة والإفادة، سيّما وأن الموضوعة قيد البحث والنقاش متّصلة، بطبيعتها، ليس بمواريث التاريخ فحسب، وإنما أيضاً بخيارات صنّاع القرار السياسي. وهكذا، لم يكن اختتام المؤتمر، الذي يُؤمل أن تصدُر أوراقه في كتابٍ بالعربية، بجلسةٍ شارك فيها ثلاثة سياسيين أوروبيين، خروجاً عن إطار المؤتمر ومسألته، وهم رئيس وزراء فرنسا ووزير خارجيّتها (الشاعر) دومينيك دو فيلبان، والمقرّرة الخاصة للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية (والأكاديمية الباحثة سابقاً في معهد دولي للدراسات الاجتماعية صاحبة الدكتوراه في القانون الدولي)، الإيطالية فرانشيسكا ألبانيزي، والممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسية الأمنية (دكتوراه في الاقتصاد)، الإسباني جوزيب بوريل. وبالنظر إلى ما استُهدف به المؤتمر من تشنيع، مع محاولة منع انعقاده، بعد تراجع “الكوليج دو فرانس” عن استضافته، وقد وصل الأمر إلى خربشة مشايعين لدولة الاحتلال أمام مقرّ المركز في العاصمة الفرنسية عباراتٍ ترى “عداء للسامية” في انعقاد المؤتمر، وتُسمّي دو فيلبان وألبانيزي عميلَين لحركة حماس وقطر (استفظع بوريل هذا، وسرَّه عدم إتيان كاتبي هذا الهراء على اسمه!)، بالنظر إلى هذا كلّه، فإنه شجاعةٌ من الثلاثة، أصحاب المناقبية الرفيعة في أوروبا، ومناصري العدالة للفلسطينيين، حرصهم على المشاركة بعد الزوبعة المصطنعة.
كان رفيعاً من بوريل وألبانيزي ودو فيلبان استنكارهم هذا الضيق الفرنسي بحرّية البحث العلمي وسخريتهم منه. وعلى كثير من الحق ألبانيزي وقد سمعناها تقول إنها تحبّ فرنسا، البلد المعروف بفنونه ومفكّريه وشعرائه، وبقيمه الثلاث، الحرية والمساواة والأخوّة، غير أنها باتت تشعر بأن هذه القيم لم تعُد تُمارَس اليوم كما يجب. وكان طيّباً من بوريل تقديره العميق لمنظّمي المؤتمر (لم ير فيه أي عداءٍ للسامية) تمسّكهم بعقده، وتمكّنهم من هذا، باعتباره، بحد ذاته، دليلاً على أهمية التفكير والحوار في مواجهة محاولات إسكات الباحثين. وعلى الإيقاع نفسه، كان تشبيه دو فيلبان قاعة المركز العربي شديدة الضيق، التي انتظم فيها المؤتمر، بصندوق أحذية صغير، لكنّه يتيح حرّية التعبير وحرّية التفكير والحرية الأكاديمية، “في عالمٍ باتت فيه الكلمة تعدُّ تهديداً لدى بعضهم. … وأفتح قوساً هنا، أنك تسمع هذا كلّه وغيره من ثلاثة أعلام أوروبيين في السياسة والقانون والدبلوماسية، وتقرأ افتتاحية في صحيفة لوموند، العتيدة، تستهجن التأليب ضدّ المؤتمر والمشاركين فيه، فيما لا تُصادف انتصار مثقفين وسياسيين عرب ملحوظ لهذا النشاط في عاصمة الأنوار، يندّد بالتضييق على الحرية الأكاديمية في فرنسا بصدد فلسطين. باستثناءاتٍ شحيحةٍ، لم يجهر كتّاب وأكاديميون عرب في فرنسا وخارجها بموقف من سلوك “الكوليج دو فرانس” ووزير التعليم العالي والبحث العلمي الفرنسي، فيليب باتيست. ولم يقل مجلس السفراء العرب في باريس شيئاً. وحتّى كتابة هذا السطور، تزاول صحافاتٌ عربية ازوراراً عن هذه القضية التي يُفترض تناولها بعينٍ ناقدةٍ وصريحة، أقله كما صنع أكاديميون ومثقفون ودبلوماسيون ومؤرّخون وإعلاميون وكتّاب وناشطون فرنسيون نزيهون، اصطفافاً منهم في ضفّة حرّية البحث والتفكير، جاءت الأخبار عن توقيع نحو ألف منهم عريضة تستنكر ما جرى، وتطالب الوزير الفرنسي باستقالته. وأن يُتابع المؤتمر نحو 400 ألفاً على صفحات التواصل التي خصّصها المركز العربي لبثّ فعالياته، فهذا من شواهد كثيرة على غباء ما اقترف أولئك.
قالها بوريل قدّامنا، نحن حضور الجلسة الرائقة في ازدحام شديد في “الصندوق” الضيّق، إن مأساة غزّة لم تُصبح اختباراً لإنسانية أوروبا فحسب، بل أيضاً مرآةً تعكس هشاشة قدرتها على اتخاذ موقفٍ مستقلٍّ وفعّال. وقالت ألبانيزي إن اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، والتي لم يعلّقها الاتحاد رغم فداحة الانتهاكات الإسرائيلية، عارٌ وخيانةٌ منذ لحظة توقيعها (1995). وقال دو فيلبان إنّ فلسطين مرآة لمستقبل أوروبا، وتطرح أسئلة شاقّة حول الخيارات الخارجية للقارّة. وقدّم ثلاثتهم إحاطاتٍ نابهة وأخلاقية في الموضوعة الأوروبية الفلسطينية … شكراً لهم.
المصدر: العربي الجديد






