المؤتمر الذي كسر حصاره

معن البياري

ليس من الغلوّ في شيءٍ أن ينكتب هنا إن مؤتمر “فلسطين وأوروبا…” الذي بدأ في باريس جلساته أمس الخميس ويُختتم اليوم نجح في كسر حصارٍ استهدفه بشكلٍ يثير العجب والغضب معاً، والرفض والاستنكار قبلهما وبعدهما. نجح لأنه كان يلزم أن ينعقد في موعده، وبالكيفيّة التي هيّأها منظّماه، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – فرع باريس وكرسي التاريخ في “الكوليج دو فرانس”، الكلية العتيدة التي تراجعت إدارتها عن استضافة المؤتمر، بعد ترتيباتٍ معها طويلة، تلبيةً لإرادة وزير في الحكومة الفرنسية، جاء من عنديّاته بأفكارٍ غريبةٍ عن هذا الملتقى المعرفي. وبدا أن شيئاً من “الخوف” قد تمكّن من غير جهةٍ في العاصمة الفرنسية جعلها تمتنع عن تلبية طلب المركز العربي استضافة باحثين ودارسين في التاريخ في منتدى بحثي عن العلاقة التي حكمتها مواريث متنوّعة بين الأوروبيين وفلسطين، ولعله “التخويف”، كما يمكن الظن (أو سوء الظن)، هو ما جعل فندقاً هناك لا يتجاوب مع طلب استئجار قاعةٍ فيه للمؤتمر. ولسنا نعرف أي وجاهةٍ قانونيةٍ لحكم القضاء الفرنسي المستعجل برفض الطعن بقرار إلغاء استضافة “كوليج دو فرانس” جلسات هذا النشاط الأكاديمي، لكن ما نعرفه أن شيئاً من سوء السمعة قد لحق بفرنسا، الرسمية حتى لا يأخذنا الغضب إلى الشطط، فالتضامن واسعٌ الذي أعلنته هيئات ومؤسّسات جامعية وأكاديمية فرنسية، مع المركز العربي، ضد استهداف الجمع الأكاديمي الذي أرادَه لبحثٍ في صلات أوروبا بفلسطين. كما أن مواقف مبدئية أشهرها مثقفون فرنسيون ضد هذا الذي وقع في بلدهم، منهم الباحث باسكال يونيفاس الذي حذّر من “المنزلق الخطير الذي تذهب فيه فرنسا بمنع التظاهرات الفكرية الأكاديمية، كأنها إحدى الدول التوتاليتارية”. وحسناً صنعت صحيفة لوموند في إشارتها إلى ألفٍ من الباحثين والأكاديميين الفرنسيين استنكروا موقف “الكوليج دو فرانس”، وتوجيه وزير التعليم العالي، وصولاً إلى مطالبةٍ باستقالته.

استمعنا، في باريس حيث تنكتب هذه المقالة فيها، إلى مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – فرع باريس، سلام الكواكبي، يقول، في مستهلّ المؤتمر الذي انعقد في قاعة شديدة الضيق في المركز، واكتظ بالحضور والإعلاميين، إن المؤتمر يُفتتح “رغم كل ما حدث، لأن الكلمة لا تُحبس، ولأن النقاش لا يلغى بقرار إداري”. واستمعنا إلى الفرنسي النزيه، هنري لورانس، أستاذ التاريخ في “الكوليج دو فرانس”، يقول في مقدّمة محاضرته العلمية، عن أهمية فلسطين في العلاقات الدولية الأوروبية، إن “ما حاول بعضُهم طمسَه خلف الجدران خرج اليوم إلى العلن”، و”لا يمكن لأي جدارٍ أن يسكت الكلمة”. واستمعنا إلى عزمي بشارة يوضح، في توطئته محاضرته، إنه لم يضف شيئاً عليها بعد زوبعة المنع التي حاولت أن تحول دون عقد المؤتمر، وبسَط سياحة علمية في مجرى المنظور الأوروبي إلى فلسطين، بدءاً من اهتمامات الرحالة والجغرافيين والدبلوماسيين، مروراً بنشوء الحركة الصهيونية التي عاداها يهود أوروبا لأسباب عدة، انتهاء بحال أوروبا وهي خلف الولايات المتحدة سياسياً بشأن أوضاع المنطقة، وإسنادها إسرائيل. استمعنا إلى عروض باحثين من إيطاليا وفرنسا وغيرهما أوراقهم عن “الصهيونية مشروعاً أوروبياً للتوسّع الاستعماري”، وعن موضوعات وقضايا أخرى تتصل بالموضوع العام للجمع العلمي. ولم نسمع أبداً ما هو خارج المعرفة والبحث في التاريخ ومسار الصلات الأوروبية مع فلسطين. ولم يخرُج باحث عن المناقبية الأكاديمية، ولا تورّط في شيءٍ مما افتعله الوزير الفرنسي المعروف بيمينيته الانعزالية، ولا بالذي اصطنعتُه لوبيّاتٌ وجمعياتٌ صهيونيةٌ أشاعت أكاذيبها عن المؤتمر، وشرّقت وغرّبت في استهدافه، في ظنٍّ منها (ومن غيرها) أن حالة الترهيب هذه ستخيف أهل المؤتمر ومنظميه وباحثيه والمشاركين فيه، وبعضهم أوروبيون جاءوا من خارج فرنسا.

لم يبحث المركز العربي وكرسي التاريخ في “الكوليج دو فرانس” عن انتصارٍ على أحد، وهم يتيحون فضاء النقاش والحوار للباحثين الذين اتّسعت لأفكارهم ومعرفتهم القاعة الضيّقة هنا في باريس. لم يفتّش أحد من أهل المؤتمر عن معارك وخصومات، وإنما الذين أرادوا هذه وتلك فشلوا، وأخفقوا، لمّا كُسر الحصار، وسمعنا، هنا في باريس، ما زوّدنا بمعرفةٍ بشأن “فلسطين وأوروبا”.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى