
“الجميع يتحدّث عن المعجزة العظيمة التي تجري حالياً في الشرق الأوسط”، كان هذا الاقتباس من بين ما كتبه ترامب في تغريدةٍ لهُ، إثر لقائه مع الرئيس أحمد الشرع في المكتب البيضاوي.
طبعاً للرئيس الأميركي فهمه الخاص عن المعجزات، مما لا يتوافق قطعاً مع ما نراه في المنطقة. لكن في سوريا على وجه التحديد، يرى السوريون ومعظم المحيط أن ما جرى وما زال يجري هو واحدة من أعظم المعجزات في تاريخ سوريا المعاصر.
على الطرفين المتناقضين تماماً، المؤيد لما حدث ويحدث والمعارض له، يبدو الأمر خارج المنطق ويفوق الخيال. المؤيدون للحكم السوري الجديد، سوريون وغير سوريين، أفراداً ودولاً، فإن أقصى أحلامهم حدثت وما زالت تحدث بتسارعٍ غير مسبوق، على الساحة السياسية الخارجية بما يخص علاقة سوريا بالعالم والجوار. والمعارضون، أفراداً ودولاً، يرونها كذلك خارج المنطق، لكنها في نظرهم كابوسٌ يأملون أن هناك من سيوقفه قريباً ليستيقظوا على واقعٍ جديد.
لم يكن أكثر المتفائلين في المخيمات السورية، ولا أكثر الواقعيين في قصور السلطة، ولا حتى أكثر المتشائمين في شوارع ضاحية بيروت، يتصوّر أن ما جرى في عامي 2024 و2025 يمكن أن يحدث فعلاً. لم يكن أحدٌ يتوقع أن تتحول سوريا إلى مسرحٍ لانقلابٍ شامل في الجغرافيا والسياسة. من كان يتخيّل أن الأسد الصغير، الذي جلس على كرسيّ الحكم بثقةٍ منذ ربع قرن، خلفاً لأبيه الذي بدورهِ جثم على صدور السوريين أكثر من ابنه، سوف يغادر البلاد خلال عشرة أيام فقط؟ أو أن الرجل الذي كانت الولايات المتحدة قد رصدت عشرة ملايين دولار لمن يأتي برأسه، سيلقي خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد أقل من عامٍ واحد من وصوله إلى حكم دمشق؟ السوريون أنفسهم ما زالوا غير مصدّقين حتى اليوم أن ما جرى قد جرى فعلاً، فكلّ ما عشناه خلال العام المنصرم بدا وكأنه مقطعٌ من روايةٍ خياليةٍ كتبها قلمُ رجلٍ يشطّ في أحلامه، ثم جاء الواقع ليجعلها مما يمكن أن يصدّقه العالم.
تفاجأ الجميع، حين بدا لهم أن التاريخ في الشرق الأوسط خرج عن مساراته المألوفة وقرّر أن يكتب نفسه بنفسه، دون إذنٍ من قادة العالم والمحللين السياسيين الذين ظلّوا يردّدون: “لا حلّ في سوريا إلا الحلّ السياسي”. ليأتي الحلّ العسكري الخاطف فيطيح بهذه الحكمة الجاهزة، ويحوّلها مثالاً عن الخلل في تحليل العلاقات الدولية والدبلوماسية الباردة.
في خضمّ هذا التحول، وفي بؤرته تماماً، جاء الرئيس السوري الجديد، الرجل الذي كان مطارَداً بالأمس ومطلوب الرأس، ليقف أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة متحدثاً عن “عصرٍ جديد في سوريا والمنطقة”.
في واحدةٍ من مظاهرات إدلب عام 2024، وقف رجلٌ بسيط أمام الكاميرا وقال بثقةٍ: “قريباً رح نكون بالقصر الجمهوري”. ضحك الناس يومها، وشارك البعض المقطع على سبيل التندر. لم يعرف الرجل أنه كان يختصر بعفويته ما لم تستطع مراكز الدراسات في أهمّ عواصم العالم أن تتنبّأ به. هو، على الأرجح، لم يقرأ كتب العلوم السياسية، لكنه بكل تأكيد
قرأ تعب الناس وقرأ هشاشة النظام، وربما قرأ شيئاً من التعابير في وجوه المقاتلين واستعداداتهم وتحركاتهم قبل أن ترصدها الأقمار الصناعية.
حقيقة ما جرى في سوريا نهاية عام 2024 أنه كان انقلاباً على طرائق التفكير نفسها. والطريف أن التجربة السورية أثبتت، على نحوٍ لا يدانيه الشك، أن التحليل السياسي كما يُمارَس في العالم العربي، لم يعد علماً رصيناً قائماً على قراءة اللوحة، بقدر ما هو طقسٌ لغويٌّ أقرب إلى المحفوظات الشعرية. المحللون الذين أمضوا سنواتٍ يتجادلون حول شكل “الانتقال السياسي”، وجدوا أنفسهم فجأة أمام انتقالٍ فعليٍّ لا يشبه أيّاً من سيناريوهاتهم، التي اعتمدت غالباً على نوعٍ من التسوية الشكلية بين النظام والمعارضة. انتقالٌ جاء عبر انفجارٍ في قلب اللوحة السوريّة، صفع الجميع بمزيجٍ لونيٍّ جديدٍ لم يكن يخطر في بال أحد.
انكشاف الحدث السوري في لحظات سقوط الأسد تلا وتزامن مع انهياراتٍ متتابعةٍ في المنطقة. حزب الله فقد قوّته في لبنان، إيران تلقّت ضرباتٍ قاصمة، وتلا ذلك أن تركيا بدأت منذ فترة، عملية سلامٍ مع حزب العمال الكردستاني بعد عقودٍ من الدم. وكأنّ الشرق الأوسط كلّه قرّر فجأةً أن يغيّر تضاريسه السياسية خلال سنةٍ واحدة. ومع ذلك بالنسبة للسوريين، بقيت سوريا هي العقدة المركزية، المسرح الذي انفجرت فيه معجزة الانقلاب على ما كان يُدعى بالأبد السوري.
لعلّ أكثر ما يثير السخرية هو أن المحللين الذين عجزوا عن التنبؤ بكلّ ذلك، عادوا بعد أيامٍ، بوجوههم ذاتها، ليشرحوا لنا بثقةٍ (علمية) تفاصيل ما جرى. أحدهم تحدّث عن “توازنات دقيقةٍ انهارت فجأة”، وآخر ذكر إنها “لحظة نضوجٍ تاريخيٍّ للمجتمع السوري”. لكن الحقيقة أن ما جرى لم يكن نتيجة توازناتٍ ولا نضوج، لكنه النتيجة الحتمية للإنهاك. إنهاكٌ للسلطة والمعارضة وشعب الخيام، ومعهم المحللون السياسيون وجملهم الإنشائية بطبيعة الحال. وصل الجميع إلى الحائط ذاته، وعندما وصلوا إليه لم يكن هناك من خيارٍ سوى أن تنهار حجارة الحائط قرب بعضهم، وعلى رؤوس البعض الآخر.
في خضمّ هذا التحول، وفي بؤرته تماماً، جاء الرئيس السوري الجديد، الرجل الذي كان مطارَداً بالأمس ومطلوب الرأس، ليقف أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة متحدثاً عن “عصرٍ جديد في سوريا والمنطقة”. المفارقة لم تكن في المشهد البروتوكولي، لكنّه في الذاكرة السورية الفقيرة إلى ذاك النوع من المشاهد، فليس هناك من رئيسٍ سوريٍّ وقف على هذا المنبر منذ 58 عاماً. المشهد أنهى عقلاً سياسياً بأكمله حكم سوريا والمنطقة لعقود، مع حضور عقلٍ مناقضٍ بطرحٍ جديدٍ لم يُختبر بعد، وهو بالتأكيد بحاجةٍ إلى الاختبار قبل إطلاق الأحكام.
تبدو لي كلمة “فانتازيا، مناسبةً لوصف ما حدث. ليس لغرابة الوقائع، فالأهم أنه كشف أن ما كنّا نظنّه “واقعياً” كان في حقيقته العميقة فقراً في الخيال. الفانتازيا الحقيقية لم تكن في سقوط الأسد خلال عشرة أيام، لكن في الإيمان الطويل بأنه لن يسقط أبداً، وفي قناعات الكثيرين بأن إيران قدَراً سوريّاً، وأن حزب الله خالدٌ كرمزه الذي قُتل قبل أن يشهد المعجزة
السورية. لقد انهارت كلّ هذه المسلّمات دفعةً واحدة، طبعاً ليس من دون أن تسيل الدماء في السياق المعتاد من الفوضى التي تعرفها المنطقة. وعلى من يريد مستقبلاً كتابة تاريخ هذه المرحلة أن يكتبه بصيغةٍ مركّبةٍ مع خيالٍ يشبه الفانتازيا. مزيجٌ من البطولة والتعب، ومن الذكاء والجنون، وممّا جرى تحت الطاولة ولمسْنا آثاره دون أن نعلم تفاصيله تماماً حتى اليوم.
لم أكتب اليوم، كما اعتدتُ، عن الوضع السوري الداخلي، وهو الأهم دائماً بالنسبة لي. مع ذلك، آملُ، ومثلي كثرٌ من السوريين، أن يُستخدم وينعكس الوضع الطبيعيّ الجديد لسوريا عالمياً في تقوية “سوريا الناس”.
بطبيعة الحال، فإن سوريا ستكون في قلب هذا التاريخ رغم أنها لم تنتصر بعد، فالحديث عن أيّ نصرٍ وطنيٍّ ما زال مبكّراً جداً لأسباب داخلية لن أتطرّق إليها في هذه المادّة. لكن الأكيد أن سوريا القديمة انتهت، وبدأت سوريا أخرى مختلفة كلّياً. ربما سيبتسم رجلُ إدلب اليوم، وهو يرى الرئيس الجديد في البيت الأبيض، ويقول “قلتلكن رح نكون بالقصر الجمهوري، لكن لم يخطر لي البيت الأبيض”. ابتسامةٌ تختصر أربعة عشر عاماً من سنوات الدم، ومثلها من سنوات التحليل الفارغ، إضافةً إلى ستين سنةً من الانتظار. وفي ضحكته الساخرة، ربما تختبئ حكمةٌ لم يدركها المحللون جميعاً.
الطريف وسط هذا، أن كلّ الصفعات التي تلقّاها مَن يحلّلون الوضع السوري اليوم باعتباره “في طريقهِ إلى الكارثة”، لم تثنِهم بعد عن التحليل السطحيّ ضيّق الأفق، مستعينين غالباً بأخبارٍ ملفّقةٍ أو بتحليلاتٍ مرسَلةٍ لا سند لها في الواقع سوى في عقولهم، والأهم أنها مبنيّة على مظاهر قشرية، وتفسيرات تهويمية. وعلى العكس من المألوف، كلما هُزموا في محطةٍ هربوا إلى الأمام دون أيّة مراجعة، وكأن لعنة “الكذب القهريّ” قد أصابتهم دون أيّ أملٍ لهم بالفكاك منها. فهم لا يرون، ولا يريدون أن يروا، هذه السابقة التاريخية التي لم تحدث في تاريخ الحركات الجهادية: انتقال منظمةٍ جهاديةٍ إلى خطابٍ جديدٍ وقطعٍ كاملٍ مع لغتها، بلغ حدَّ إحراق كلّ المراكب منعاً لأيّ تراجع.
أميركا وأوروبا والعالم بمعظمه صدَّق الأمر. فقط المعارضون الجدد ومحلّلوهم الأكثر بصيرةً لم يستوعبوا ولا يريدون تصديق هذه الانتقالة، وهذا التغيير الذي لا سابق له في تلك الحركات الجهادية، وما زالوا يتحدّثون عن التقيّة معتقدين بيقينٍ ساذجٍ أن الرئيس الشرع، في يومٍ ما، بعد “التمكين”، سوف يمدّ لسانه ساخراً من السوريين ودول الإقليم وكامل الكرة الأرضية، ليقول لهم: “ما زلتُ جهادياً في تنظيم القاعدة، لم أتغيّر وإنما كنت أخدعكم”. والمؤسف أكثر أنه لا توجد أيّة إشارةٍ تشي بأن هؤلاء سوف يتغيّرون في المدى المنظور.
لم أكتب اليوم، كما اعتدتُ، عن الوضع السوري الداخلي، وهو الأهم دائماً بالنسبة لي. مع ذلك، آملُ، ومثلي كثرٌ من السوريين، أن يُستخدم وينعكس الوضع الطبيعيّ الجديد لسوريا عالمياً في تقوية “سوريا الناس”، واستخدام ما تحقق لتصحيح الكثير من الإخفاقات الداخلية، خصوصاً على الصعيد الأمني والسلاح المنفلت والجرائم المتنقّلة، والأهم لجهةِ الحوار مع كل السوريين المختلفين، دون الاستقواء على أحدٍ، سوى مجرمي الأسد والمتطرّفين الذين يتربّصون بكواتم الصوت والعبوات الناسفة.
المصدر: تلفزيون سوريا






