عن الملتقى الإعلامي العربي في بيروت

يقظان التقي

يوحي عنوان “الملتقى الإعلامي العربي” بفضاء واسع من التدفّق الهائل للمعلومات والأفكار والأخبار والأحداث، وبأن التظاهرة الإعلامية صارت تشكل في دورتها الحادية عشرة جزءاً أساسياً من التحوّلات والمتغيّرات، والتيّارات والاتجاهات، ومن اختبار “الميديا الجديدة” نموذجاً مفتوحاً في السياسة والاقتصاد والأمن الاجتماعي، نتيجة لطبيعة الأزمات الكثيرة المتشابكة والصراعات في قضايا عديدة، ما يسمح بتشكيل عالم إعلامي موازٍ في قلب بيئة متنامية متصاعدة، ولا سيّما القضايا التي أثارتها حرب غزّة ونقاشات المنطقة الاستراتيجية، وما يعود إلى الاهتمام الحديث المؤسّس على الحاجة إلى النقاش الجدي وتقديم وجهات نظر مختلفة، وإعادة تعريف واقع عمل وسائل الإعلام العربية وآلياتها، وتحديد أدوارها المستجدّة بالتقاطع مع مصالح اقتصادية واستراتيجية كبرى، كما النموذج الغربي.
مع ذلك، مثّل انعقاد الملتقى في بيروت خطوة رمزية، نوعاً من الاعتراف بدورها الذي ما عاد مؤثراً.
مثّل انعقاد الملتقى في بيروت خطوة رمزية، نوعاً من الاعتراف بدورها الذي ما عاد مؤثراً
ورغم هذا الانفتاح النسبي، لا يمكن القول إن المؤتمر شكّل نجاحاً أو تحوّل حدثاً مدينياً بارزاً يلفت الانتباه إليه. لا نريد أن نحسم، لكن الملتقى جاء بلا حماية فكرية حقيقية تلحظ الحضور و”البراديغم” (النموذج) الذي يستطيع أن يسرق الأضواء بوصفه قيمةً مضافةً محمّلةً على شيء جديد في البنيوية الوظيفية التي تعرض لتجاربها ورؤيتها الخاصة بجرأة وعفوية، أو تملك السلطة على المعرفة والرأي العام في الأشياء والأحداث المرتبطة بالواقع. ما خلا أن الملتقى شكّل مساحةً ضرورية لجذب الطلاب الجامعيين أساساً، وليحتلّوا مكاناً على تعدّدية من أشكال التعبير والصفاء الإعلامي، غير المسرح التقليدي في رهانات الخروج بصور تذكارية تتنافس على لحظات محدودة، أو التملّق في مثل هذه الملتقيات الذي أصبح مهنةَ الإعلاميين في عصر من النرجسية التي يصعب الخروج منها، لجهة حجم المبالغة في أخذ الصور للتلميع، فيما العالم في الخارج ينفجر بكل شيء. كما سُجّلت مظاهر غير إيجابية تماماً بين بعض الصحافيين ومراسلي القنوات المشاركة، تمثّلت في سلوكات تنافسية مفرطة. كشف هذا الأمر جانباً من فراغات إعلامية، ما زالت تسيطر على الميدان الإعلامي العربي بواقع لا يطاق، ما يطرح أسئلة بشأن من ينظّم معطيات الملتقيات، ووفق أي بنى ومحيطات يجري في داخلها التفكّر في المشكلات المتعلّقة بالمجتمع والدولة؟ لقد تجاوز الملتقى كل ما يجري حوله من زمن العنف والقتل والتجويع والبربرية الإسرائيلية في غزّة، والجنون في أكثر من مكان في الشرق الأوسط والعالم.
لم يكن متوقّعاً بروز هذه الأحداث على مداها الواسع. لكن لا بدّ من التعرّض لها أمام حشدٍ كبير من الطلاب الجامعيين المشاركين على نطاق مهم لبلورة العلاقة بين المعرفة النظرية التي يدرسونها في مناهجهم الأكاديمية، والواقع والممارسة الميدانية الإعلامية، ولتبادل الخبرات والنظرات بين الأجيال المختلفة. وقد شكّل حضورُهم من جامعات مختلفة عاملاً محفّزاً إلى النقاش وتبادل الآراء، ومواجهة الحقائق التي صارت قابلة للتحوّل، ومن ضمنها معارضة الحرب العدوانية الإسرائيلية وما يعانيه الشعب الفلسطيني من نظام أبارتهايد عنصري. وكان مفاجئاً تغييب قضية الحرب نفسها، وقد خرج العالم كلّه لها، والجامعات الغربية ما تزال تحت المراقبة، ومن حقّ الشباب أن يكون لديهم أفكار شاملة لمناقشتها أو تحليلها، والذهاب أبعد من مضمون الرسائل الإعلامية الفقيرة في السياق والمعنى.
جمعت فعاليات الملتقى أكاديميين وممارسين وإعلاميين ومثقّفين عديدين في حوار مهني حول “دور الإعلام والتنمية… شراكة الحاضر وتحالف المستقبل”، مع عدة عناوين فرعية تمر بالاختبار الكلاسيكي، وتتحرّك في المكان الأكثر أمناً من النقاشات المتعارضة والمتعاكسة حول الإعلام نقطةً مركزيةً، ما يعيد تعريف آليات عمل وسائل الإعلام الحديثة، وتحرير الحقيقة من أيّ مرجعية، واستخدام وسائل عمل قانونية في العمل، وتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، والنمو المتبادل والبوابات الإعلامية المفتوحة التي تجعل حياة المواطن العربي أكثر قيمةً وكرامة إنسانيةً، في عولمة حقيقية.
على المستوى العام، اتسم الملتقى بضعف فاعلية المحاور والاتجاهات الفكرية والثقافية، التي تؤكّد دورَ بيروت مختبراً في الثقافة والإعلام، وهي لم تعد إليه منذ سنوات طويلة، نتيجة انهيارات بنيوية طاولت كلَّ المجالات: السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وغياب موارد الإنتاج والدعم المؤسّسي وتصدّعات كبيرة في إمكانيات النهوض والبناء في المستقبل. ما عادت وسائل المؤتمرات هي التي تنظّم الإعلام الجديد وسط ادّعاءات الديمقراطية، ولم تكن الدورة قريبة من فكرة كيف تقوم النظم الإعلامية بدورها بوصفها آليات عمل استراتيجية في تغيير المجتمع، وأيّ صناعة أخرى في العالم. وحدها الثورة التكنولوجية وعالم الذكاء الاصطناعي قطعا على المؤتمر الانشغالات الأخرى كلّها، لتتكثّف الجلسات التدريبية حول دور الذكاء الاصطناعي. لكن تكنولوجيا الاتصالات لا تستطيع وحدها إعادة بناء المجتمعات المدمّرة التي تحتاج إلى تسريع المبادرات السياسية والاقتصادية وتعزيز النقاشات، خاصةً في المجتمعات التي مزّقتها الحروب والأزمات. فالملتقى هو أولاً ملتقى القيم الإنسانية والإعلامية بالشراكة مع الذكاء الاصطناعي، وهو أيضاً صار أيديولوجيا للتحضير لعالم الغد. لن يعتمد المستقبل على الآلات التي يخترعها الإنسان فقط، بل على كل ما يرتكز على قيم التواصل من خلال عرض الرؤى وإعداد جيل جديد يُعطى معنى التقدّم.
سُجّلت مظاهر غير إيجابية بين بعض الصحافيين ومراسلي القنوات المشاركة، تمثّلت في سلوكات تنافسية مفرطة
كل ما يجري في المنطقة يفرض تحديداً جديداً في تنظيم مثل هذه الملتقيات، لتكون مورداً إعلامياً يستخدم آليات عمل متغايرة في البحث عن حلول لمشكلات الإنسان العربي وهمومه وتوضيح القضايا الفرعية المرتبطة بقضايا التنمية والمشكلات الرئيسة. فالجانب النقدي لا يمكن إغفاله، ولا سيّما مع قدرة أجيال متزايدة على الحضور، تتمتّع بوعي متنامٍ، وتستخدم التكنولوجيا، ليس للتعبير عن آرائها فحسب، بل أيضاً للتعبئة حول قضايا عديدة لا يمكن تجاهلها. ويتضح أكثر أن النقاش حول حرية الإعلام لم يعد يقتصر على أنه نقاش رقمي، بل صار حقوقياً وفلسفياً ووجودياً، ومعركةً اقتصاديةً وجيوسياسيةً، إذ تُربط الحرية بشكل مباشر بالسوق الديمقراطية والصفقات التجارية.
للإعلام (في الحد الأدنى) أهمية جوهرية في كشف الفظائع المرتكبة بحقّ المدنيين والصحافيين في حرب غزّة وأوكرانيا والنزاعات في القرن الأفريقي. والسؤال عن دور وسائل الإعلام في الحرب والسلام، وعما إذا كانت تشكّل رافعةً للتأثير في المستوى السياسي العربي، وفي الدائرة الديمقراطية من عمل المؤسّسات الإعلامية. هذا التأثير للملتقى في إعادة تموضع المواقع السياسية والإعلامية، لم يحمل جديداً، كأنّ المُنتدِين لا معلومات تصلهم من الخارج. قد لا يصنع الإعلام التغيير، لكن يسانده، مقوّياً التوازن أحياناً بين حركية الحقائق التاريخية وحركية نقل الوقائع، ليس مجرّد رواية رسمية في إجراءات انعقاد مثل هذه الملتقيات والمشاركة، حتى تصبح القيم الهامة الاجتماعية والإنسانية حقيقية في حياة المجتمعات العربية.
يمتلك الإعلام العربي القدرة على التطوّر، وأن يوازن بين الحداثة التكنولوجية والتعدّديات المتناقضة لخدمة الوعي العام والمجتمع، وإعادة الأشياء إلى الديمقراطية والمساءلة والنقد في ملتقى كان من المفترض أن يعكس الروح الإعلامية الحديثة، وليس أن يكون في خدمة المشهد.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى