البيت الأبيض والتحوّل الجوهري سوريّاً

حسان الأسود

يحلّ الرئيس السوري أحمد الشرع ضيفاً على البيت الأبيض، الاثنين 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025، وهذا في العُرف الرئاسي الأميركي شيء مميّز، فليس كلّ رئيس أو ملك أو زعيمٍ يمكنه زيارة البيت الأبيض بسهولة. أمّا في عرف السياسة الراهنة، فالأمر اعتراف بالأهمية وتثبيت للمنظومة السورية الجديدة ضمن المجموعة الدولية. يؤشّر الحدث إلى دور جديد تلعبه سورية في المنطقة، فبعد أن كانت جزءاً من “محور الشرّ” وفق التصنيف الأميركي، أصبحت أخيراً ضمن محور الرعاية. لم يأت هذا التحوّل، بطبيعة الحال، وليد لحظة تاريخية هي 8 ديسمبر (2024) فقط، وإن كانت الأخيرة تتويجاً لمسار طويل أدّى إلى هذا الانتقال، إذ لعبت عوامل عديدة أدواراً أساسية في التحوّل الدراماتيكي، منها سلوك نظام الأسد البائد في مرحلة ما بعد “7 أكتوبر” (2023)، وعدم فهمه طبيعة التحوّل الذي نتج من هذا الزلزال. ومنها إدراك القوى الدولية الكبرى والإقليمية الفاعلة، ضرورة حلّ المشكلة السورية التي باتت عقدةَ المنشار في وجه التسويات والتفاهمات في عالم بدأ يخطو بتؤدة نحو نظام دولي متعدّد القطبية من جديد. الأكثر أهمية من ذلك كلّه وجود قوّة سورية قادرة على تمثّل هذه الضرورة، وتقديم التعهدات اللازمة للمساهمة فيها ضمن شروطها الموضوعية، وتحويلها منجزاتٍ وأرقاماً واتفاقياتٍ ومعاهداتٍ. هذه الجهة هي هيئة تحرير الشام.
لا يملك الرئيس الشرع حالياً رفاهيةَ إثارة حفيظة قاعدته الشعبية، التي لا ترى في إسرائيل إلا عدوّاً إبادياً
بدأ السوريون عهدهم الأول في مطلع القرن العشرين، مع تأسيس المملكة العربية السورية، عاقدين الأمل على الولايات المتحدة. تفيد وقائع التاريخ بأنّهم طالبوا بلجنة لتقصّي الحقائق واستطلاع رأيهم بشأن حكم منطقتهم، أسوة بما فعل المنتصرون في الحرب العالمية الأولى مع اليونانيين والبلغار والبولونيين وغيرهم من رعايا الإمبراطوريات التي انهارت نتيجة الحرب. ولأنّ الولايات المتحدة وقتها لم تكن القوّة العظمى كما هي اليوم، بل كانت القوّة الصاعدة فقط، ولأنّها كانت تريد عقلنة السطوة الإنكليزية ـ الفرنسية على عالم ذلك الزمن، والحدّ منهما لا إلغاءها واستتباعها، كما حصل لاحقاً بعد الحرب العالمية الثانية، أصدر الرئيس الأميركي وودرو ويلسون (صاحب مبدأ حقّ الشعوب في تقرير مصيرها) قراره بإرسال بعثة من شخصَيْن: هنري كينغ وتشارلز كراين، بعد أن رفضت كلٌّ من بريطانيا وفرنسا المشاركة فيها. حقّ تقرير المصير الذي أدرجه الرئيس ويلسون ضمن نقاطه الـ14 المقدّمة إلى مؤتمر السلام بعد الحرب، هو الذي أصبح جزءاً من المنظومة الدولية عند تأسيس عصبة الأمم، ومن ثمّ هيئة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. كان للسوريين حظُّ المشاركة في بعض جلسات مؤتمر السلام من خلال الأمير فيصل بن الحسين، الذي تُوِّج لاحقاً ملكاً على البلاد. وكان الأمير يحاول جاهداً إقناع الأميركيين بالتمسّك بمبادئهم التي وضعها ويلسون، وكانت في ما يخص منطقتنا طوق النجاة آنذاك. فشلت مساعي الأمير، لا لضعف حجّته، بل لأنّ المصالح الداخلية الأميركية فرضت انكفاء الرئيس للتركيز في الانتخابات، ولأنّ الإنكليز والفرنسيين كانوا أكثر قوّةً في ذلك الوقت.
قد يكون من مفارقات التاريخ أن يعيد السوريون الآن الكرّة عاقدين الأمل على الأميركيين، ورغم بحور الدماء وأنهار الحبر التي سالت في العالم والمنطقة، بين مطلع القرن الماضي ووقتنا الراهن، ورغم انحياز الولايات المتحدة المطلق إلى إسرائيل التي لم تكن موجودة، ورغم التغييرات الجوهرية كلّها في موازين القوى العالمية التي حصلت خلال هذا القرن، تبقى المقاربة ممكنة ومعقولة. التاريخ يصنعه الأقوياء والمنتصرون، وسورية اليوم ليست في أفضل حالاتها، لكنّها ليست عديمة الحيلة ولا القوّة، وما زال في جعبتها سهامٌ كثيرة. قد يكون الصراع الدولي اليوم على أشدّه لإعادة رسم ملامح النظام الدولي الجديد، وكما كان الأمر قبل قرن، هو الآن أيضاً. يبذل السوريون اليوم جهدهم لخوض غمار هذا التغيير بكل قواهم. لا يقتصر ذلك على الحكومة الانتقالية والرئيس أحمد الشرع فقط، بل يشمل أيضاً كل القوى التي تجد نفسها حالياً معنيّةً بإعادة التشكيل السوري الجديد، قيامةً بعد الدمار والخراب الذي عاشته البلاد منذ عقود طوال. الجالية السورية في أميركا خيرُ مثالٍ على هذا النشاط الكبير الذي يحاول المساعدة ما أمكن.
مهمّة الرئيس الشرع لن تكون سهلةً في البيت الأبيض، فالضغوط الهائلة التي تحيط بالبلاد ستكون حاضرةً على الطاولة. إرث 60 عاماً وأكثر من الاستبداد جعل سورية في حاجة إلى إعادة التموضع في خريطة التجاذبات الدولية. سيكون الملفّ الاقتصادي، بما فيه رفع العقوبات وإعادة الإعمار، أولويةً للجانب السوري. فبعد الدعم السياسي الكبير لسورية، الذي دفعت إليه البلدان العربية وتركيا بقوّة أمام الرئيس ترامب، يأتي همّ توفير البنى الأساسية للاستقرار، وأولها إعادة الدخول ضمن الدورة الاقتصادية العالمية. ولكن من المتوقّع أن يطلب الرئيس ترامب من الشرع عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل، وهذه ستكون محرجةً سورياً وعربياً وإسلامياً، فالدماء الفلسطينية واللبنانية لم تجفّ بعد، والاعتداءات الإسرائيلية على سورية وعربدتها على دول الجوار تجعل من المستحيل الركون إلى أيّ اتفاق معها. علاوة على ذلك كلّه، لا يملك الرئيس الشرع حالياً رفاهيةَ إثارة حفيظة قاعدته الشعبية، التي لا ترى في إسرائيل إلا عدوّاً إبادياً.
سبقت زيارة الرئيس أنباءٌ عن نيّة الولايات المتحدة افتتاح قاعدة عسكرية في جنوبي سورية، من مهامّها مراقبة الاتفاقات التي ستُعقد مع الإسرائيليين لاحقاً. إنْ صحّ هذا الأمر (نفته دمشق رسمياً)، فإننا أمام حالة فريدة من نوعها، إذ توجد للروس وللأميركيين قواعد في البلد نفسه، وبموافقة رسميّة من الحكومة الشرعية في البلاد. يدلّ هذا التموضع الجديد على أنّ الدول الكبرى بدأت تتفاهم في المنطقة، وأنّ سورية لم تعد عقدة المنشار، بل ربّما تكون هي المسار الذي يُقرّب التناقضات بين الدول المتصارعة على النفوذ في العالم.
أي سلامٍ منفرد سيجرّد العرب والمسلمين من أحد أهمّ عناصر القوّة في مواجهة الغطرسة الإسرائيلية
يمكن أن يكون للرئيس ترامب وجهة نظر في الاعتماد على الشرع للمساعدة في بعض ما يتيحه موقع سورية الاستراتيجي لإعادة ضبط المنطقة. التصريحات التي تقول إنّ سورية ستشارك في الحلف الدولي لمحاربة الإرهاب تفيد بأنّ البوابة المبدئيّة لا تزال ضيّقةً، ومع الوقت يمكن توسعتها للقيام بأدوار أخرى اقتصادية، وربّما سياسية أيضاً. سيجعل هذا الوضع من الرئيس الشرع أكثر حرصاً على مقاربة العلاقة مع إسرائيل من بوابة المصالح الوطنية العليا. والظن أن الذهاب إلى الصفّ العربي والإسلامي، والتمسّك بالمبادرة العربية للسلام، سيكون المخرج من المأزق الذي قد يكون نتنياهو يحضّره ليوقع فيه سورية ورئيسها مع ترامب.
ستكون الزيارة مفصلية بكل المقاييس، وإذا ما أراد الرئيس الشرع كسب الوقت والمحافظة على المصالح السورية، فعليه أن يتنبّه إلى أنّ أي سلامٍ منفرد سيجرّد العرب والمسلمين من أحد أهمّ عناصر القوّة في مواجهة الغطرسة الإسرائيلية. صحيح أنّ البلاد في حاجة إلى التهدئة الآن، وصحيح أنّه لا قِبَلَ لسورية في مواجهة إسرائيل، لكن هذا لا يعني أن نذهب معها في اتفاقية سلامٍ غير متكافئة على الإطلاق، والظن أنّ الرئيس السوري يدرك ذلك تماماً. في النهاية، هذا المسار الجديد يؤشّر بقوّة إلى جوهر التحوّل الجذري في تموضع سورية في الخريطة الإقليمية والعالمية.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى