تسونامي ممداني يهزّ السياسة الأميركية داعمة الإبادة

هنادي صلاح

لم يكن فوز المرشّح التقدّمي، زهران ممداني، بمقعد عمدة نيويورك، مجرّد انتصار محليّ في انتخاباتٍ هادئة في الولايات المتحدة، بل لحظة سياسية عابرة للمدن والحدود، تعبّر عن تحوّلٍ أعمق في المشهد الأميركي المعاصر، وعن سؤالٍ يتجدّد: هل يمكن لسياسيٍ مسلم من أصول مهاجرة، يدعم بوضوح العدالة في فلسطين، أن يغيّر ملامح الخطاب العام في الولايات المتحدة؟ في زمنٍ تتراجع فيه ثقة الأميركيين بالمؤسّسات، ويصعد فيه الخطاب اليميني مدعوماً بالانقسام الحزبي، وفي لحظة تتقاطع فيها السياسة المحلية الأميركية مع السياسة العالمية، لا سيّما مع اشتعال الأزمات في الشرق الأوسط، وفي مقدّمته غزّة؟
على الرغم من ضعف التركيز الأميركي التقليدي في غزّة في السنوات الماضية، يعكس فوز شخصية مثل ممداني إمكانيّة توجيه اهتمام جديد، يمكن أن يترجم إلى مبادراتٍ سياسية أو دبلوماسية أكثر فعالية. ويبدو أن هذه المبادرة المحلّية تفتح الباب أمام قراءة أوسع لدور المدن الكبرى في ضبط السياسات الأميركية الخارجية، بما يشمل الضغط على الحكومة الفيدرالية لدعم وقف الحرب ورفع المساعدات، وطرح معايير حقوق الإنسان في جدول الأولويات، إذ تشهد الولايات المتحدة في العامَيْن الأخيرَيْن تصاعداً واضحاً لليمين المحافظ، سواء في الكونغرس أو في المشهد الإعلامي. لم يعد هذا اليمين يمثّل تياراً اقتصادياً متشدّداً فقط، بل صار أيضاً حاملاً رؤية أيديولوجية، تعيد تعريف “مَن الأميركي؟”، ومَن يستحق أن يكون جزءاً من روايته القومية. في مواجهة ذلك، يحاول الجناح التقدّمي (ينتمي إليه ممداني) إعادة تعريف السياسة بوصفها أداة للمساءلة، ولتوسيع مساحة الحديث عن الفئات المهمّشة.
تاريخياً تبدأ التحوّلات الكبرى في أميركا من الأطراف قبل أن تصل إلى واشنطن
ولكن ما يجعل فوز الشاب مميّزاً التحالف غير التقليدي الذي صعد به، فقد حظي بدعم جزء من الجاليات اليهودية اليسارية، وتحديداً التي انتقدت السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين علناً. يعبّر هذا التحوّل، وإن كان جزئياً، عن تصدّعٍ داخل الجالية اليهودية الأميركية نفسها، بين تيارٍ يرى في انتقاد إسرائيل موقفاً أخلاقياً، وآخر يراه خيانة للهُويَّة الجماعية. أن يفوز سياسي، مثل ممداني، بدعمٍ من ناخبين يهود يعني أن الخطاب التقدّمي نجح في تفكيك الاصطفافات القديمة، وفتح نقاشاً جديداً حول معنى التضامن، ليس مع الداخل الأميركي وحسب، بل مع العالم كذلك.
وجود شخصيات مثل ممداني أو رشيدة طليب أو إلهان عمر يمثّل تحدّياً لهذا التيار التقليدي داخل الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة. ويتجاوز هذا التحدّي القضايا الاقتصادية، ليصل إلى القضايا الأخلاقية في السياسة الخارجية، مثل دعم إسرائيل غير المشروط أو استخدام العقوبات أداة للهيمنة. يبقى السؤال: هل يمكن لفوزٍ رمزيٍّ في نيويورك أن يغيّر شيئاً في معادلة واشنطن الدولية؟ ليس الجواب بسيطاً، فالنظام الأميركي محكوم بشبكة مصالح اقتصادية وعسكرية معقّدة، تجعل التغيير الجذري بطيئاً. لكن الرموز السياسية، في الوقت نفسه، قادرة على إعادة صياغة الخطاب العام، والخطاب هو الخطوة الأولى لأيّ تحوّل فعلي. لقد نجح ممداني في كسر الصمت بشأن قضايا كانت تُعدُّ محرّمة، وفي مقدّمها انتقاد سياسات إسرائيل، وهذا بحدّ ذاته إنجازٌ ثقافيٌّ وسياسيٌّ، لأنّه يعيد تعريف معنى “الولاء الأميركي” بعيداً عن الثنائية المزيّفة بين الوطنية والخيانة.
رغم أن فوز ممداني لا يحمل أثراً مباشراً في سياسة واشنطن الخارجية، فإن رمزيّته السياسية تتقاطع بقوة مع مشاهد غزّة اليوم. فبينما يصوّت الأميركيون في انتخابات محلية تبدو بعيدة، يعيش الفلسطينيون مأساة إنسانية متجدّدة تحت الحصار والقصف وانعدام المساعدات. ومع ذلك، لا تزال التغطية الإعلامية الأميركية المنحازة تقف حاجزاً بين الواقع والحقيقة، وهو ما يجعل صعود أصوات مثل ممداني ضرورياً لتصحيح السردية.
جيل ما بعد 2001، الذي نشأ في ظلّ الحروب والعنصرية الممنهجة ضدّ المسلمين والمهاجرين صار اليوم أكثر جرأة في تحدّي الخطابات التقليدية
من هنا، لا يعود الحديث عن فوزه شأناً بلدياً فحسب، بل رسالة سياسية تتجاوز حدود نيويورك: أن هنالك إمكانية (ولو محدودة) لتغيير الوعي الجمعي الأميركي بشأن الشرق الأوسط، وأن العدالة في فلسطين يمكن أن تصبح قضية رأي عام، لا مجرّد ملفٍّ دبلوماسي. في المقابل، مثّل العمدة السابق لنيويورك، إريك آدامز، نموذجاً للسياسة التقليدية المتصالحة مع مراكز القوة المالية والإعلامية. خلال ولايته، وقف صراحة ضدّ التظاهرات المؤيدة لفلسطين، واعتبرها “تهديداً للأمن العام”، في انسجامٍ مع خطاب المؤسّسة السياسية الداعمة لإسرائيل بلا قيد. كما تبنّى سياساتٍ داخلية أثّرت سلباً في الأقليات، لا سيّما المهاجرين الأفارقة واللاتينيين، مكرّساً صورة نيويورك مدينة تخضع لحسابات انتخابية أكثر من التزامها بحقوق الإنسان.
وبمقارنة بسيطة، يبرز ممداني وجهاً مناقضاً تماماً لهذا النمط، فهو لا يخشى إعلان مواقفه من الاحتلال الإسرائيلي، ويرى في العدالة للفلسطينيين امتداداً لنضال السود والمهاجرين داخل أميركا نفسها. ويعبّر هذا التحوّل في قيادة المدينة عن تحوّلٍ أوسع في وعي الشباب الأميركي تجاه قضايا العدالة العالمية. تأتي هذه التحوّلات في وقتٍ حرج، قبيل الانتخابات النصفية التي تعكس عادة المزاج السياسي العام قبل انتخابات الرئاسة. ومع أن فوز ممداني لا يعني تحوّلاً واسعاً نحو اليسار، فإنه يعيد رسم خريطة التوازن داخل الحزب الديمقراطي، فهناك اليوم تيّاران واضحان، تيار مؤسّسيٌّ يفضّل الوسطية والتحالف مع الشركات الكبرى، وآخر تقدّميُّ يطالب بإعادة تعريف العدالة الاجتماعية والاقتصادية.
الانتخابات النصفية التي فاز فيها ممداني أخيراً هي بمثابة “بروفا” سياسية للانتخابات الرئاسية المقبلة. ومع تصاعد الغضب الشعبي من استمرار الحرب في غزّة، يواجه الحزب الديمقراطي اختباراً غير مسبوق: هل يواصل دعمه العسكري لإسرائيل من أجل كسب أصوات اللوبيات النافذة، أم يعيد النظر في سياساته حفاظاً على قاعدة الناخبين الشباب؟ قد تحدّد الإجابة عن هذا السؤال مستقبل البيت الأبيض، فالمزاج الأميركي يتغيّر ببطء، ولكن بثبات. وتاريخياً، تبدأ التحوّلات الكبرى في أميركا من الأطراف (من المدن التقدّمية مثل نيويورك وسان فرانسيسكو)، قبل أن تصل إلى واشنطن. وبالتالي، ليس فوز ممداني تفصيلاً محلياً، بل مؤشّر على انقسامٍ قيميّ داخل أميركا نفسها بين من يرى العدالة قيمة عالمية، ومن يصرّ على حصرها داخل حدود المصالح الوطنية الضيّقة.
رغم أن القنابل التي تسقط على غزّة تحمل اسم “صنع في إسرائيل”، فإن معظمها مموّل من واشنطن. ليست الولايات المتحدة مراقباً في هذه الحرب، بل هي طرف مباشر فيها من خلال تمويلٍ عسكري بمليارات الدولارات، وتغطية سياسية متواصلة في مجلس الأمن. لذلك، لا يمكن فصل الحديث عن “وقف الحرب” عن الحسابات الانتخابية في واشنطن، فالإدارة الأميركية الحالية تسعى إلى تخفيف الضغط الداخلي المتصاعد من القاعدة الديمقراطية الشبابية والعربية والإسلامية، التي تطالب بوضوح بإنهاء الدعم غير المشروط لإسرائيل.
السؤال الأعمق: هل يمكن لسياسة “وقف الحرب” أن تتوافق مع السياسة العامة للولايات المتحدة؟ الجواب معقّد، فالتوجّه الرسمي الأميركي ما زال خاضعاً لتوازنات اللوبيات السياسية والعسكرية، رغم مؤشّرات إلى تراجع الدعم الشعبي للسياسات الإسرائيلية. هنا تبرز أهمية شخصيات مثل ممداني، لأنها تعبّر عن تحوّل أخلاقي داخل الوعي الأميركي، قد لا يغيّر السياسات فوراً، لكنّه يشيع نقاشاً لم يكن ممكناً قبل سنوات.
أحد أبرز الدروس التي يمكن قراءتها من فوز ممداني هو دور الأجيال الشابة، فجيل ما بعد 2001، الذي نشأ في ظلّ الحروب والعنصرية الممنهجة ضدّ المسلمين والمهاجرين صار اليوم أكثر جرأة في تحدّي الخطابات التقليدية. يرى هؤلاء الشباب، الذين قادوا تظاهرات احتجاجية، ووقفوا ضدّ التمييز العرقي في القضية الفلسطينية استمراراً لمعركة أوسع ضدّ الظلم والاستعمار الحديث. لم يكن دعمهم لممداني لأنه “مرشّح تقدّمي” فقط، بل لأنه صوت يتحدّث لغتهم القِيَميّة (لغة العدالة العابرة للحدود). في المقابل، يعاني اليمين الأميركي من فجوة عميقة مع هذا الجيل، الذي يرى أن النفاق في السياسة الخارجية الأميركية لا يمكن أن يستمرّ إلى ما لا نهاية.
قد لا يغيّر ممداني موازين القوى العالمية، لكنه يقدّم درساً رمزياً في الإمكان: أن التغيير يبدأ بكسر الصمت
إذا كان فوز ممداني يمثل بارقة أملٍ لجيلٍ جديد من السياسيين التقدّميين، فإنّ التحدّي الحقيقي يبدأ الآن: كيف يمكن تحويل الرمزية فعلاً سياسيّاً ملموساً؟ كيف يمكن ترجمة هذا الوعي الجديد إلى تشريعات أو مواقف أو سياسات خارجية أكثر عدلاً؟ هنا تبرز الحاجة إلى بناء تحالفات شبابية عابرة للأعراق، وإلى ضغطٍ مدني مستمرّ لا يكتفي بالتصويت، بل يراقب ويحاسب. فالتاريخ الأميركي علّمنا أن التحوّلات الكبرى تبدأ من الأطراف (من الحركات الطلابية والنقابات، والمجتمعات المهمّشة) قبل أن تصل إلى المركز السياسي في واشنطن.
بين فوزٍ في نيويورك وأصواتٍ تحت الأنقاض في غزّة، تمتدّ خيوط السياسة الحديثة لتذكّرنا بأنّ العدالة ليست محلّية. قد لا يغيّر ممداني موازين القوى العالمية، لكنه يقدّم درساً رمزياً في الإمكان: أن التغيير يبدأ بكسر الصمت، وأنّ النضال من أجل العدالة (أينما كان) هو جزء من المعركة ذاتها. ربّما لن تُفتح السماء على غزّة غداً، وربّما لن يتغيّر موقف واشنطن بسرعة، لكنّ المسار الرمزي الذي بدأه ممداني يثبت أن سردية الشعوب المقهورة لم تعد غائبة من المشهد الأميركي. هناك جيلٌ جديد يكتب قصّة مختلفة تبدأ من صناديق الاقتراع، وتمتدّ إلى ما وراءها، إلى ضميرٍ عالميّ لم يمت بعد.
المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى