
تتعلق هذه القمم بالتنمية الاجتماعية وبالحدّ من التفاوت الاجتماعي ومعالجة قضية التغيّر المناخي، تستقي مهامها من تحدّيات الواقع وخطة الأمم المتحدة 2030، التي تهدف إلى معالجة قضايا الفقر والجوع والصحّة والتعليم وتغيّر المناخ والمساواة بين الجنسين والمياه والصرف الصحّي والطاقة والبيئة والعدالة الاجتماعية. انقضت 30 عاماً على قمة كوبنهاغن، ولم تكد تتناقص أعداد الفقراء أو تُنجز المهام أعلاه، وجرى مجدداً تأكيد مواجهتها في قمّة الدوحة الأسبوع الماضي. ولكن لماذا عُولج بعضها فقط؟ وهل العالم سيساعد على تقليص أعداد الفقراء (فقر مدقع وانعدام الأمن الغذائي لأربعة مليارات إنسان، منهم مليارا طفل، وفقاً لتقارير الأمم المتحدة).
لن تستطيع الدول المشاركة في قمّة الدوحة من مواجهة آثار السياسات النيوليبرالية في العالم بأكمله
اجتمع في مؤتمر الدوحة ثمانية آلاف شخص، رؤساء ورؤساء حكومات وأكاديميون وناشطو منظّمات المجتمع المدني وسواهم. ولكن الأحوال لم تتغيّر منذ 30 عاماً، ولن تتغيّر كثيراً في 2030، كما تأمل الأمم المتحدة. لماذا؟… المشكلة الحقيقية في أزمات النظام الرأسمالي، المتعلّقة بقيامه على التناقض بين الطبقات، واستغلال المُفقَرين، وهناك نهب دول المراكز الأطراف، واستعمارها عند الضرورة. هناك مشكلة كبرى تواجه العالم، تتعلّق بآثار السياسات النيوليبرالية التي اعتُمدت منذ نهاية ثمانينيّات القرن المنصرم، وبتقلّص دور الدولة في السوق، إذ تتبنّى النيوليبرالية سياسات ممنهجة ترفع الدعم عن الفقراء، تراجعت معها سياسات الحماية الاجتماعية في قضايا العمل والتعليم والصحّة والسكن والغذاء. الأسوأ، أن هذه السياسات أصبحت تؤثّر في دخل المواطن الأميركي مثلاً. فهناك 42 مليون إنسان (من 340 مليون) يتلقون مساعدات غذائية يومية، وهناك تقارير تؤكّد الأمر ذاته في بريطانيا وفرنسا وسواهما.
إذاً مهما حاولت الدول المشاركة في قمّة الدوحة (وغيرها) اعتماد سياسات اجتماعية واقتصادية جادّة، فلن تتمكن من مواجهة آثار السياسات النيوليبرالية في العالم بأكمله، التي انتجت كل ما تريد معالجته قمّتَا الدوحة وكوبنهاغن، وخطة الأمم المتحدة لعام 2030، والتنمية المستدامة.
هناك دور للدولة في معالجة قضايا الفقر، وقد استطاعت الصين تقليص أعدادهم بشكلٍ مذهل بين القمّتين، لماذا؟… المقصد هنا، لا يمكن معالجة قضايا التنمية الاجتماعية واستدامتها من دون سياسات وطنية، واقتصادية واجتماعية، مستقلّة عن تأثير السياسات النيوليبرالية، وتقليص دور الدولة، أو الانخراط في العولمة التي تهدف إلى نهب البلدان المُخلَّفة (لاحظ الصراع الحالي بين الصين وأميركا على المعادن النادرة في العالم). أصبحت الصين شريكة أميركا في نهب العالم، وسحق إمكانية تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في تلك البلدان، أي التصنيع، وتأمين فرص العمل، وتحقيق التعليم الأفضل، والانتقال الديمقراطي.
ليست أميركا والصين المسؤولتين عن أحوال الدول المُخلَّفة، فهناك سياسات هذه الدول التي تعيق التطوّر الكلّي، وهي سلطات مستبدّة أو ديمقراطية منخفضة، ولهذا كان الربيع العربي في نهاية 2010. ليس النمو الاقتصادي هو الحلّ، بل التنميتان الاقتصادية والاجتماعية، فقد كانت أرقام النمو في تونس تشير إلى أكثر من 6%، ولكنّها كانت محصورة في مناطق بعينها ومُلحقة باقتصاديات الشركات الكبرى في دول المراكز، بينما كانت أغلبية السكّان مُفقرةً ومهمّشةً؛ فكانت الثورة الشعبية، وهي أسباب الثورات العربية كلّها.
السياسات النيوليبرالية العالمية، وتضخيم أعداد الفقراء، وانهيار الطبقات الوسطى أنتجت الثورات الاجتماعية، وقد استطاعت الدولة الصينية تقليص ذلك، ولكن على حساب الديمقراطية والحرّيات، وكذلك على حساب البيئة، إذ لم تراعِ ذلك أبداً في مصانعها. هناك تجربة مهمّة (اشتراكية بقدر ما) في البرازيل، ففيها نظام ديمقراطي، وحقّقت تنميةً ملحوظة، وقلّصت أعداد الفقراء. إذاً لا بدّ من جمع أمرَين: النظام الديمقراطي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية لوضع سياسات جادّة نحو تحقيق أهداف القمم أعلاه.
تأتي قمّة الدوحة وهناك تنافس شديد بين الصين وأميركا، وخلافهما حول تايوان. هناك الغزو الروسي أوكرانيا، وظاهرة الانقلابات العسكرية في أفريقيا، والحرب المرعبة في السودان، وعدم استقرار في كلٍّ من اليمن وليبيا وسورية والعراق ولبنان، وإمكانية تجدّد الحرب ضدّ إيران، ومأساة العصر في غزّة، وعدم وجود حلّ عادل للقضية الفلسطينية… وهذا يعني أن هناك أزمات كبرى، ولن نسهب في الحديث عن صعود اليمين في أوروبا أو ظاهرة ترامب ظاهرةً عالمية، تُكثّف سياسات عالمية للتمييز بين القوميات واللون والجنس والأديان، وتدفع نحو تأزيم العلاقة بالصين وأوروبا، والتخلّص من المعاهدات العالمية. وهذا سيعني مزيداً من الفقراء وربّما الحروب.
هناك الآن حاجة إلى أكثر من تريليون دولار لمكافحة تغيّر المناخ في العالم المُخلَّف، وهي ظاهرة تتعلّق بآثار التقدّم الصناعي في أوروبا وأميركا ولاحقاً الصين، ولكن التغيّر يتركّز في العالم “المُخلَّف” هذا. انسحب ترامب من مؤتمر المناخ، وانسحب من العديد من المعاهدات الدولية، ويتبنّى سياسة إقامة علاقات أحادية بين أميركا وأيّ دولة في العالم، وهذا سيكون لصالح أميركا. ولكن هناك الصين، وهي صاحب مشروع اقتصادي “إمبريالي”، عالمي، كما أميركا بشكل خاص، وهناك تنافس شديد بينهما، وتتشكّل تحالفات دولية تقودها. السؤال هنا: مع هذه التحالفات، هل تستطيع قمّة الدوحة تحقيق أهدافها المستقبلية وصولاً إلى 2030؟
لم تبتعد مقرّرات قمّة الدوحة كثيراً عن مقرّرات قمة كوبنهاغن، وربّما ستتزايد أوضاع الفقراء في العالم، وهو ما أشارت إليه تقارير الأمم المتحدة في القمّة. هذا نتاج السياسات النيوليبرالية على العالم وفي منطقتنا، ونتاج وجود الدولة الصهيونية وأنظمة الاستبداد، وبسبب فشل التنمية الاقتصادية في أفريقيا خاصّة، وكذلك بسبب تسييس الهُويَّات الدينية، العراق ولبنان مثلاً.
“ليس النمو الاقتصادي هو الحلّ، بل التنميتان الاقتصادية والاجتماعية
يتطلب تحقيق مقرّرات قمّة الدوحة العودة إلى دور الدولة في التنميتين، الاقتصادية والاجتماعية، أي وضع خطط لكل القطاعات الاقتصادية، وبما لا يمنع حرية العمل الاقتصادي، وتهتم الدولة بوضع خطّةٍ للتنمية الشاملة والمُستدَامة، وتبني الحرّيات والنظام الديمقراطي، ورفض الانقلابات العسكرية، الشائعة في أفريقيا، ولا بد من تحييد الدولة عن تسييس الهُويَّات الدينية، واحترام حرية العبادة للمؤمنين.
يتطلب تحقيق خطة هيئة الأمم المتحدة لعام 2030 تغييرات كبرى في السياسات، ويتجاوز الأمر التوصيات الخاصّة بالتنمية الاجتماعية، وهي القضية الأساسية في كلٍّ من قمَّتي كوبنهاغن والدوحة؛ ولفت رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة، لوك بهادور ثابا، إلى أن “الثروة باتت في أيدي أفراد محدودين، وأن 5% فقط من السكّان يعيشون حياة أفضل، وأن مليارَي شخص في العالم لا يحظون بتغطية وشبكة أمان اجتماعية، ما يسلبهم كرامتهم ويجعلهم مرضى في مهب الأزمات، وهو ما يضعف الثقة بالمؤسسات الحكومية”. إذاً لا بدّ من تغيير السياسات الاقتصادية لتتحقّق التنمية الاجتماعية. وعد بذلك زهران ممداني في نيويورك، وتبنّى سياسات اشتراكية، فهزم ترامب والمرشّح الديمقراطي، وصار عمدة هذه المدينة.
المصدر: العربي الجديد






