سوريا من ضحايا التاريخ إلى صانعيه.. رهانات ما بعد رفع العقوبات

ضاهر عيطة

يوم الإثنين القادم سيكون يومًا منتظرًا لدى الغالبية العظمى من المهتمين بمسار الأحداث الجارية في العالم والمنطقة العربية، ولا سيما السوريين. ففي هذا اليوم سيلتقي الرئيس أحمد الشرع مع الرئيس دونالد ترمب، وفي هذا اللقاء ستُعلن عدة عناوين واتفاقيات، من بينها محاربة الإرهاب، وكف يد إسرائيل عن التدخل في الشؤون السورية، وكذلك إعلان رفع العقوبات، وقد يتم هذا الإعلان قبل اللقاء. وهو بحد ذاته إنجاز هائل وعظيم لو حدث فعلًا، على صعيد التموضع الجديد للخارطة السورية، والحياة المعيشية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتعليمية لدى السوريين، ويُفترض أن أول من سترتاح قلوبهم، ويستنشقون أنفاسهم، ويتحسسون أثر هذا الإعلان وفوائده على حياتهم، هم المتعبون، والأكثر فقرًا وشقاءً وحرمانًا، والذين يشكّلون الغالبية الساحقة من السوريين. إذ إن رفع العقوبات يعني عمليًا وصول الأموال من شتى أنحاء العالم، ومن البنوك والمؤسسات والشركات ورجال الأعمال، لتصب في بنوك وخزائن السوريين، ومنها إلى آلات الصرف التي ستكافئهم على صبرهم وتعبهم، وما بذلوه من تضحيات، وعلى ما سيبذلونه مستقبلًا من جهد وعمل للنهوض بأنفسهم وبأركان الدولة السورية الجديدة. وعندها ستبدأ عجلة الحياة الآمنة بالدوران، وتصبح مهيأة لترميم وبناء المساكن والمدارس والمعاهد والجامعات الجديدة، وإقامة المصانع والمعامل، ومشاريع البناء والإعمار والزراعة، وخلق فرص عمل هائلة للعاطلين، كما سيساعد ذلك على تأسيس محاكم قضائية تُعنى بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي أقدمت عليها العصابة الأسدية بحق السوريين، ويساعد أيضًا على تأسيس عدالة انتقالية، ومحاكمة من أجرموا بحق الناس أمام قضاء عادل. وبذلك يُعاد الاعتبار والحقوق للضحايا والمتضررين، وتُوفَّر لهم ولأطفالهم حياة آمنة ومستقرة.
وإن لم يلمس المواطن العادي والفقير ويتحسس مثل تلك التطورات، وإن لم يعشها قبل غيره، فمعنى ذلك أن هناك خللًا وتقصيرًا واستغلالًا لعوائد هذا الإعلان لمصلحة المنتفعين القائمين على الشأن العام، وهذه قضية يجب أن يُخصَّص لها محاكم وقضاة ومستشارون وخبراء لمنع التعدي على مصالح الفئات المنكوبة والمسحوقة وهذا يحيلنا إلى موضوعة الفساد، وهو أمر يحتاج لحديث آخر.
ولنعد الآن إلى دلالات ومعاني رفع العقوبات عن سوريا في هذا التوقيت بالذات، فهو ليس مجرد حدث سياسي عابر أو إجراء إداري خارجي، بل هو مؤشر استراتيجي يحمل في طياته تحولات داخلية وخارجية تشمل خريطة التحالفات الدولية والمحلية، وبنية الاصطفاف السياسي، ومفهوم السلطة والدولة. فما نوع وشروط هذه التحولات ومتطلباتها؟ وكيف ينبغي قراءتها في سياق المسار السوري المعقد؟
فأول ما ستحملها معها هذه التحولات هو الطلاق الكامل مع حقبة الأسدية، وحلف الممانعة والشعارات والأوهام، وخروج سوريا من حلفٍ اتكأ طوال تاريخه على أيديولوجيا فارغة تتناقض عناوينها مع أفعالها، وهذا يستدعي كنس الخطاب العاطفي المنبعث من الأهواء والنفاق، لا من العقل والاتزان. حيث وجدت الأسدية في انضمامها لهذا الحلف القائم على قهر وقمع الشعوب أداةً لإدامة سلطتها من خلال الحكم القمعي وأجهزة المخابرات والمزايدة على القضية الفلسطينية، وكانت في كل خطوة تخطوها في هذا المجال تقترب من حافة الانهيار وتزيد من خسائرها وخسائر القضية الفلسطينية، هو بالعموم حلف المهزومين والمنافقين والمتاجرين بدماء شعوبهم.
كما أن التحول الذي سيطرأ عن إعلان رفع العقوبات، وإن كان التحاقًا متأخرًا بحلف العصر والواقعية، لا يمكن فهمه إلا كإشارة إلى بداية التحاق سوريا على الأقل بحلف المنتصرين، أي الحلف الذي تقوده الولايات المتحدة وشركاؤها، والذي تقوم رؤيته على التكنولوجيا والعقلانية والحوكمة، لا على الخطابات الطوباوية، رغم ما يشوب هذا الحلف من شبهات حول مفهوم العدالة الإنسانية والحرية وازدواجية المعايير، لكنه يبقى الخيار الأفضل في علاقات الدول القائمة الآن. وهذا لا يعني بالضرورة الانسياق أو التبعية لهذا الحلف، إنما تبني شروط العصر، والدخول في لعبة الدول الحديثة القائمة على المصالح والواقعية، لا على شعارات النصر الطوباوية ونظريات المؤامرة التي كثيرًا ما استُخدمت كمبرر للقمع والانغلاق عن الغير.
نعم، ربما ستكون هناك متطلبات مؤلمة كشروط لرفع العقوبات والبدء بالبناء والإعمار، وهذا يحدث لجميع الدول الخارجة من حروب وكوارث كبرى، كما جرى مع ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك روسيا بعد ثورة 1917، عندما اضطر لينين إلى التوقيع على “صلح بريست” رغم ما تضمّنه من شروط قاسية. وفي الحالة السورية، فإن لحظة التحول تفرض قبول ما كان يعتبر محرّمًا سياسيًا في الحقبة الشعاراتية السابقة. ولا بد من شرح مضامين هذه التحولات والشروط أمام الرأي العام، ونقلها من حالة ضعف إلى حالة قوة، ومن حالة ماضوية إلى رؤية مستقبلية. وهذه المهمة يفترض أن تقع على عاتق مؤسسات إعلامية، ومنظمات مجتمعية وثقافية وفكرية، تضم شخصيات وطنية ذات مصداقية عالية، لا بقصد إيهام الناس وتضليلهم والكذب عليهم، وإنما بقصد التوضيح والصدق والشفافية لمعرفة كيف يمكن متابعة السير في طريق سوريا الجديدة.
وبمقارنة بسيطة بين رفع العقوبات عن سوريا من عدمه، نجد أن بقاء العقوبات يعني استمرار السوريين في النحت بالصخر لعقود طويلة للخروج من الحفرة التي ساقتهم الأسدية إليها، وربما سيبقى اللاجئون والنازحون والمشردون والفقراء بلا مأوى ولا مدارس ولا مستشفيات لسنين عديدة. أما في حال رفع العقوبات، فسيعود ملايين اللاجئين إلى مدنهم وقراهم ليعمروها، وستُبنى المدارس والمعاهد والجامعات، وسيزول حزن الشوارع حين لا يعود هناك أطفال يتسولون فيها، بل ستضحك حين ترى مجتمعاً كاملاً ينهض من كبوته ليعبدها ويمضي لبناء مستقبله.
وأعتقد أن معظم السوريين لو خُيّروا في هذا الشأن سيختارون طريق رفع العقوبات لا عدمه، لئلا يموتوا قهرًا وجوعًا وجهلًا وتعطيشًا. ومن الضروري أن يدرك السوريون أن الالتحاق بالجانب الصحيح من التاريخ يعني بالضرورة القبول بقيم الحضارة العصرية: الشفافية، والحكم الرشيد، والمحاسبة، وتداول السلطة، وحقوق الإنسان، وفصل السلطات. فهذه القيم لم تعد مجرد مفاهيم مستوردة، بل أدوات لازمة لقيام الدول الحديثة وبناء علاقات سياسية جديدة داخليًا وخارجيًا، ولا يمكن أن يستقيم ذلك دون جعل هذه القيم الناظم الأساسي للسلوك العام والمؤسسات، خصوصًا وأن أسئلة الثورة السورية العظيمة لم تزل قائمة، تلك الأسئلة التي لم تجرؤ الأنظمة على مواجهتها، لا في سوريا وحسب، بل في معظم الدول العربية: من نحن؟ ما هويتنا؟ ما شكل الدولة التي نريدها؟ وما موقفنا الحقيقي من إسرائيل؟
والمطلوب اليوم إجابات نابعة من الداخل السوري، لا مستوردة أو مفروضة من الخارج، إجابات تبحث عن تسويات عقلانية، وتنهي الهروب الطويل نحو ماضٍ متخيل، خوفًا من المستقبل، بدلًا من بنائه على أسس جديدة. وإن كنا نبحث عن منظور جديد لصراعات الحكم والسلطة وعن مقاربات جديدة، فلتكن برؤية عمر بن عبد العزيز، الخليفة الأموي، الذي يعد من أوائل قيادات العالم من حاولوا تحويل مفهوم الحكم من تسلط إلى عدالة إنسانية، رافضًا الامتيازات الطبقية والقبلية، ومساويًا بين الجميع. وكانت رؤيته السياسية أقرب إلى العدالة التصالحية منها إلى العدالة الانتقامية، تمامًا كما فعل مانديلا عقب نهاية نظام الفصل العنصري، أو مارتن لوثر كينغ كمقاربة تحررية، مدنية، لا عنصرية، تؤمن بالعدالة دون إلغاء الآخر، وتقوم على نزع فتيل المظلوميات وفتيل الأساطير لا على تكريسها.
وأيضًا، من شأن رفع العقوبات عن سوريا أن يعيد لها، ولجميع مدنها، مكانتها الحضارية، بحكم موقعها الجيوستراتيجي الذي كان يشكل جسرًا بين الشرق والغرب. فمن ماري وإيبلا وأوغاريت خرجت أول أبجدية في التاريخ، وهناك وُضعت اللبنات الأولى للإدارة والكتابة والعلاقات الدبلوماسية. وقد أسّست تلك المدن، بموقعها وتطورها، للأسس التي بُنيت عليها معظم الأبجديات اللاحقة — الفينيقية واليونانية واللاتينية — كما قدّمت نظام الأرشفة والكتابة المسمارية الذي مهد لفكرة الدولة المؤسسية. وكانت دمشق، بوصفها أقدم مدينة مأهولة في العالم، مرتكز الحضارات في الجوانب الفكرية والعلمية والروحية والدينية، ومهبطًا للرسل والأنبياء. ومع دخول الإسلام إليها، صارت عاصمة لأول إمبراطورية عالمية في التاريخ الإسلامي — الدولة الأموية — التي امتدت من حدود الصين إلى الأندلس، حيث ازدهرت العمارة والطب والإدارة والترجمة، ولم يكن الجامع الأموي مجرد مسجد، بل مركزًا فكريًا واجتماعيًا وعلميًا يعكس تلاقح الثقافات والعلوم والديانات. وقد خرج من سوريا، عبر التاريخ القديم والحديث، آلاف العلماء والمفكرون الذين أثروا في شتّى الميادين، وتركوا بصمتهم في أصقاع الأرض. وإلى الآن موقع سوريا الجغرافي والجيوستراتيجي لم يتغير، ويستطيع السوريون اليوم أن يعيدوا إلى سوريتهم دورها التاريخي والحضاري إذا ما جعلوا منها مختبرًا ومنبعًا لعصرنة الفكر والدين والثقافة والسياسة والقيم الإنسانية، لا ساحة لكراهيات وصراعات وحروب وجوع وهزائم.
هل نجرؤ نحن السوريين على ذلك؟ وهل نستطيع أن نستعيد دورنا الحضاري ونتحول من ضحايا في التاريخ إلى صانعيه؟ هذه هي رهانات ما بعد رفع العقوبات، وهذا الإنجاز، لو حدث، سيكون فرصة أوجدها السوريون لأنفسهم، وليس منّة من أحد، وقد كلفهم حصد ثمارها ملايين الضحايا والشهداء ودروبًا طويلة من التعب والشقاء. وأظنهم ما ضحوا بكل ذلك، إلا ليعيدوا سوريتهم لتصدر فكرهم وقيمهم وملاحمهم الإنسانية والبطولية، وتنشر السلام في ربوع العالم، ويدخلوا معها الحضارة الحديثة من أرقى وأنقى أبوابها، بدلًا من تصدير الكبتاغون والقتل والموت، والدخول في دوامة الهلاك كما فعلت الأسدية.
المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى