
يشكّل دخول ثلاث شركات ضمن قائمة أكبر 20 مشغلاً عالمياً لموانئ الحاويات، باستثمارات إلى سوريا، خلال أقل من سنة، مؤشراً على تصاعد الرهان على موقع البلاد ضمن خطوط التجارة الإقليمية والدولية. وكانت مجموعة CMA CGMالفرنسية، سبّاقة في ذلك، بوصفها مستثمراً قديماً لمحطة حاويات ميناء اللاذقية منذ 2009. لكن تجديد عقدها الموقّع مع الحكومة السورية في أيار الفائت، لـ30 عاماً، باستثمارات تقدّر بنحو 260 مليون دولار، كان نقلة نوعية. والمجموعة الفرنسية هي ثالث أكبر شركات الشحن البحري وثامن أكبر مشغل للموانئ، على المستوى الدولي. وفي أيار الفائت أيضاً، دخلت مجموعة موانئ دبي إلى ساحة الاستثمار في سوريا، عبر مذكرة تفاهم لتطوير ميناء طرطوس، وعدد من المناطق الصناعية والموانئ الجافة. و”موانئ دبي”، هي خامس أكبر مشغل للموانئ في العالم.
أما الجديد، قبل ثلاثة أيام، فكان دخول مجموعة موانئ أبو ظبي إلى الاستثمار في الموانئ السورية، عبر اتفاقية استحواذ على 20% من محطة حاويات اللاذقية، في مشروع مشترك مع المجموعة الفرنسية CMA CGM. وذلك مقابل تطوير البنية التحتية والأنظمة الرقمية ورفع الكفاءة التشغيلية للمحطة. وفي عام 2024، دخلت مجموعة موانئ أبو ظبي ضمن قائمة أكبر 20 مشغلاً عالمياً لموانئ الحاويات، في المركز التاسع عشر.
الملفت أن الاتفاقية وُقّعت في أبو ظبي، بين الرؤساء التنفيذيين للطرفين -موانئ أبو ظبي ومجموعةCMA CGM الفرنسية- من دون الإعلان عن تمثيل رسمي سوري. وهي بذلك، اتفاقية استحواذ إماراتية على حصة أقلية مع المشغل الفرنسي لمحطة حاويات ميناء اللاذقية، بمعزل عن “المالك” للأرض، الذي تمثّله الحكومة السورية. وهو ما قد يستجلب انتقادات متعلقة بحق “السيادة”، في حالة “الدولة السورية”، رغم أن الاتفاق صحيح، إجرائياً. لكن، بعيداً عن ذاك الجانب، للاتفاق دلالة سياسية واقتصادية.
أما الدلالة السياسية، فتتعلّق بأنه ثاني استثمار إماراتي في مجال الموانئ السورية. وهو استثمار ضئيل (22 مليون دولار)، مقارنة باستثمار “موانئ دبي” في طرطوس، قبل أشهر، (800 مليون دولار). لكنه يؤكد وجود رهان إماراتي على استقرار مستقبلي مرتقب في سوريا. ومن ناحية الشراكة الإماراتية- الفرنسية الجديدة في محطة الحاويات بأكبر ميناء سوري، فهي تحمل أيضاً ثقلاً متصلاً بدعم الحكومتين الإماراتية والفرنسية لـ”العهد الجديد” بسوريا، إذا أخذنا بالاعتبار امتلاك الشركتين الشريكتين، “أبو ظبي” و CMA CGMالفرنسية، صلات وثيقة بالحكومتين في أبو ظبي وباريس. مع الإشارة إلى أن الشركتين المشار إليهما، لهما شراكات مشتركة سابقة.
لكن تبقى الدلالة الاقتصادية، هي الأهم. فميناء اللاذقية، هو الشريان التجاري البحري الرئيس لسوريا. إذ تتم فيه “مناولة” أكثر من 95% من بضائع الحاويات في البلاد. ولدى مجموعة CMA CGM الفرنسية خطة طموحة لزيادة القدرة الاستيعابية لمحطة حاويات الميناء، بنسبة 150%، خلال عام من الآن. مما يؤشر إلى الرهان على توسع الحركة التجارية من سوريا وإليها، بوتيرة متصاعدة بسرعة، خلال الفترة المقبلة. ومن مؤشرات هذا الرهان، إعلان شركة “جي إف إس”، المملوكة بنسبة 51% من مجموعة موانئ أبو ظبي، استعدادها لتوسيع عملياتها في ميناء اللاذقية، بهدف تعزيز حضورها في ممرات التجارة البحرية بين آسيا وأوروبا.
يتكامل الطموح “الإماراتي- الفرنسي”، المعبَّر عنه في الاندفاع للاستثمار في الموانئ السورية، مع الطموح “التركي”، لإعادة إحياء “طريق الشرق الأوسط” التاريخي، حسب تعبير وزير التجارة التركي، عمر بولات، قبل أيام. وهو مسار برّي يربط تركيا بالأردن ودول الخليج، عبر الأراضي السورية، والذي من المنتظر أن يعمل بكامل طاقته بحلول عام 2026. إذ إن إحياء هذا الطريق، سيعزّز قيمة الاستثمار في الموانئ السورية المرتبطة بطرق التجارة البرّية. وبذلك ترث دول كالإمارات وفرنسا وتركيا، “الحلم الروسي- الإيراني”، باستغلال موقع سوريا، ليكون جزءاً حيوياً من طرق التجارة الإقليمية والدولية. وفيما تحوّل “الحلم الروسي- الإيراني” إلى أضغاث أحلام، تتسارع خطوات دول الخليج وتركيا، للاستثمار في البقعة السورية الجيوستراتيجية.
وبهذا الصدد، يمكن أن نقرأ انتقادات لتخلي الحكومة السورية عن صلاحيات التشغيل والاستثمار في أصول سيادية حيوية، كالمرافئ والمطارات ومحطات الكهرباء، كما رأينا فيما كُشف عنه من اتفاقات موقّعة بالأشهر التسعة الماضية. وهي انتقادات مبررة بطبيعة الحال، لكنها لا تأخذ بالاعتبار، تلك الحاجة الملحة والعاجلة لتحريك عجلة الاقتصاد بالبلاد، في الوقت الذي لا تمتلك فيه الحكومة موارد مالية لتحقيق ذلك. فكيف يمكن للحكومة السورية أن تطوّر مرافق حيوية، وهي لا تملك القدرة المالية على ذلك؟! الجواب إما بالقروض أو بالاستثمار الأجنبي. وفي الحالتين، لا يمكن للحكومة أن تفرض شروطها.
وبعيداً عن هذا الصنف من الجدل، يبقى أن حصاد ثمار الاتفاقيات الموقّعة عبر ترجمتها إلى واقع يفيد بتحريك عجلة الاقتصاد وخلق فرص عمل، يتوقف على نجاح الحكومة في دور أَولى وأهم بكثير، من إدارة المرافق الاقتصادية. يتعلّق بالأمن، وفرض سيادة القانون. وهي المهمة التي من المفترض أن تكون الأكثر أولوية بالنسبة لـ”العهد الجديد” في سوريا، على الصعيد الداخلي.
المصدر: المدن



