
شكّل الاقتصاد أحد الحقول والآليات الرئيسة التي استخدمتها إسرائيل للسيطرة على الفلسطينيين وإنكار حقوقهم. وتجلّت بعض السمات الأساسية لما يمكن تسميته “اقتصاد الاحتلال” باستخدام الضفة الغربية وقطاع غزّة سوقاً أسيرةً للسلع الإسرائيلية، والتحكّم بالصادرات والعمالة الفلسطينية، وتحقيق الأرباح من صادرات المستوطنات، وسرقة أموال الضرائب الفلسطينية، ونهب الموارد الطبيعية الفلسطينية وبيعها مجدّداً للفلسطينيين، وتشويه البنية الزراعية الفلسطينية، والاستيلاء على الموارد المائية الفلسطينية، وفرض نظام اتحاد جمركي أحادي الجانب مجحف بحقّ الفلسطينيين، على سبيل المثال. ونتيجةَ عقودٍ من التطبيق المنهجي لهذه السياسات، أصبح الاقتصاد الفلسطيني هشّاً وضعيفاً للغاية، ومحتوى بالقوة من الاقتصاد الإسرائيلي، ويعاني أزمةً مزمنةً، وفجوةً في الموارد المالية والاقتصادية، تنعكسان سلباً على المجتمع والسياسة وأفق النضال التحرّري الفلسطيني، بالرغم من وجود مظاهر الغنى الفردي والإفقار الجماعي.
“يساعدنا الاقتصاد المُشتبِك في فهمٍ أعمقَ لآليات مقاومة البنى الاستعمارية للهيمنة الاقتصادية
وتتجلّى بُنى الهيمنة الاقتصادية الإسرائيلية على فلسطين في طرائق متعدّدة ومعقّدة، وتعمل في إطار ما يسمّيه الكاتب “المُربّع القبيح” للاستعمار الاستيطاني، والفصل العنصري، والاحتلال، والإبادة الجماعية. ويمكن تصوّر (وتخيّل) أنّ مواجهة ذلك كلّه ليست مهمةً سهلةً، ولكنّ مقاومةَ هذه الأطر هي الفعل الطبيعي والبديهي. فالمقاومة الاقتصادية جزءٌ من الصورة الأشمل لمواجهة الهيمنة الإسرائيلية الاستعمارية الاستيطانية. ولذلك، نموذجا “التنمية بوصفها اشتباكاً ومواجهة” و”التنمية بوصفها حرية” هما اللذان ينبغي تطبيقهما وتبنيهما. وفي ظلّ العيش تحت وضع استعماري كولونيالي، لا تعني التنمية إلّا الاشتباك. وبالتالي؛ فهم العملية التنموية بوصفها أداةً للمقاومة والتحرّر، والإيمان بأن نموذج الاقتصاد المقاوم يقدّم بديلاً جدياً إذا أردنا اقتصاداً يحرّرنا، وليس اقتصاداً حرّاً يستعبدنا، يوفّر نموذجاً يختلف جذرياً عن النموذج الذي فرضه إطار اتفاقات أوسلو (1993) على الفلسطينيين.
وفي ظلّ هذه الحالة الاستعمارية، تأخذ المقاومة الفلسطينية أشكالاً وصوراً متعدّدة، وغالباً ما يجري التركيز في الأشكال السياسية أو المسلّحة منها، ولكنّ الشكل الأساس للمقاومة يحدُث في الحياة اليومية، في صمود الفلسطينيين، ويُجسِّد إصرارهم على البقاء في أرضهم أو العودة إليها، رغم محاولات الاحتلال الإسرائيلي تهجيرهم. ويمتدّ هذا الصمود إلى المجال الاقتصادي، ويسمّيه الكاتب بـ”الاقتصاد المُشتبِك”، وهو شكل آخر من أشكال “السياسة المُشتبِكة”. وبموجب هذا الإطار، حلقات الاشتباك إمّا أن تواجه التفتّت والشرذمة والقمع أو أن تحمل رؤىً مغايرةً وتنفّذ أفعالاً تفضح السلطات، وتقدّم بدائلَ لما هو قائم. ويحاجج كاتب هذه السطور هنا بأنّ هذا الإطار التحليلي لـ”الاقتصاد المُشتبِك” يساعدنا في فهمٍ أعمقَ لآليات مقاومة البنى الاستعمارية للهيمنة الاقتصادية. ومع ذلك، قد لا تكون هذه الأشكال من المقاومة مرئية بما يكفي، خصوصاً في أوقات الإبادة الجماعية والتجويع. ولذلك يجب النظر إليها بوصفها جزءاً من عملية تراكمية تتطلّب قيادةً شرعيةً وفعّالةً، ومؤسّسات تمثيلية وظيفية، ورؤية أوسع ومختلفة، كي تفضي إلى نتائج تحوّلية.
أضف إلى ذلك أن مفهومَي “الوكالة” و”الفعالية السياسية – الكرامة” هما في صميم أيّ نقاش يهدف إلى تحقيق تطلّعات الفلسطينيين وحقّهم في تقرير المصير ونيل الحرية. وقد قُيِّد هذان المفهومان أو جُرِّما ضمن الأطر القائمة للهيمنة الاستعمارية، أو حتى ضمن ما تُسمَّى “أُطر السلام”، التي لم تقدّم خلال العقود الثلاثة الماضية سوى “إطارٍ زائف للسلام”. لذلك؛ فإنّ “الوكالة”، و”الفعالية السياسية – الكرامة”، هما أداتان حقيقيَّتان للتمكين، وإذا لم يضمّن الفلسطينيون بأنفسهم هاتَين القيمتَين في مسار تنميتهم، فلن يفعل أحد ذلك نيابةً عنهم.
وعليه؛ يتطلب التحوّل نحو مسار تنمية قائم على الكرامة مواجهةَ النموذج القائم منذ 30 عاماً، وهزيمته. ليس لأنه نموذج متقادم فحسب، بل لأنه نموذج مُدمِّر، وجذرياً معيب، ولأنه، يومياً، ينتزع من الفلسطينيين قدرتهم على المقاومة والتمتّع بقدراتهم التحوّلية. الآن خاصة، بعد عامين من الإبادة الجماعية المستمرّة، يحتاج الفلسطينيون إلى التوجّه نحو نموذج اقتصادي يمكّنهم في نضالهم المناهض للاستعمار، ويعزّز قدراتهم وإمكاناتهم على المقاومة، وتفكيك بُنى القوة غير العادلة، ومواجهة ظروف القمع والظلم.
نموذج الاقتصاد المقاوم إطار يفهم عملية التنمية بوصفها عمليةً تراكميةً وتكامليةً، اقتصاديةً واجتماعيةً وسياسيةً، تسعى أساساً إلى تحرير الإنسان من التبعية والإذلال. وهي عملية تهدف إلى تحرير الإنسان من الفقر وعدم المساواة والخوف والاضطهاد، وتمكينه من فلاحة أرضه، وتوسيع خياراته وقدراته وإمكاناته، بل ضمان سعادته أيضاً. لذلك؛ فالاقتصاد المقاوم استراتيجيةٌ مضادَّةٌ للهيمنة، تتحدّى الوضعَ القائم، وتقاوم بُنى القوة المهيمنة. إنه شكل مؤسّسي من النضال الاقتصادي يهدف إلى إعادة تنظيم الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية انتقالياً، بما يتناغم مع المتطلّبات والأهداف السياسية لمسار التحرّر الوطني الفلسطيني. الاقتصاد المقاوم هو استراتيجيةٌ للتنمية الاقتصادية ذات بعد سياسي، تدعمها منظومةٌ من القيم والمعايير الاجتماعية.
لا تعني التنمية إلّا الاشتباك إذا أردنا اقتصاداً يحرّرنا، وليس اقتصاداً حرّاً يستعبدنا
وبطبيعته، فإنّ الاقتصاد المقاوم هو استراتيجية متعدّدة الوظائف والأبعاد، تهدف إلى وضع الأسس لنشوء نظام اجتماعي وقاعدة سياسية تساعد الفلسطينيين في نضالهم من أجل التحرّر وتقرير المصير. ومن هنا؛ فإنّ الاقتصاد المقاوم له بُعدان: دفاعي وهجومي. إنه درع (صمود) وسلاح (مقاومة) في آنٍ، لأنه جزء من استراتيجية أوسع للمقاومة تهدف إلى إنهاء الاستعمار الإسرائيلي.
بالطبع، هناك قائمةٌ طويلةٌ من المتطلّبات الأساسية والشروط الاستباقية لتحويل هذه الرؤية واقعاً جديداً، ولكن إحداث تحوّل جذري في المجال الاقتصادي يتطلّب شرطين جوهريين: وجود قيادة حقيقية، وفتح مساحات تخطيط وتفكير لجميع الفلسطينيين لتحديد النماذج السياسية والاجتماعية والاقتصادية الجديدة جماعياً. والوقت لفعل ذلك هو الآن. اليوم، وبعد عامَين من الإبادة الجماعية، يجب أن يُنظر إلى تبنّي رؤيةٍ ونموذجٍ اقتصاديٍّ جديدٍ ومختلفٍ بوصفه جزءاً من مسيرة الحرية الفلسطينية.
المصدر: العربي الجديد






