
في السياسة، لا تُقاس اللحظات التاريخية بعدد الخطابات، بل بقدرة الدول على تحويل التحديات إلى مسارات جديدة، وفي الحالة السورية، يبدو أن مرحلة ما بعد الحرب دخلت طوراً مختلفاً، حيث تسعى الدولة السورية الجديدة إلى استعادة مكانتها الدولية وبناء مؤسساتها الداخلية بالتوازي، وذلك في مسار مزدوج تتقاطع فيه الدبلوماسية الخارجية مع الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في الداخل.
تأتي الزيارة المرتقبة للسيد الرئيس أحمد الشرع إلى العاصمة الأميركية واشنطن كإحدى أبرز علامات التحول في المشهد السياسي الراهن، فهي لا تُعدّ مجرد لقاء دبلوماسي تقليدي، بل تمثّل خطوة استراتيجية تهدف إلى إعادة بناء جسور التواصل بين دمشق وواشنطن، عقب عقودٍ من القطيعة والتوتر.
إنها خطوة تتجاوز الأبعاد البروتوكولية لتلامس جوهر التحولات الإقليمية والدولية، وتؤسس لمسارٍ سياسي جديد قد يسهم في إعادة تموضع سوريا في محيطها العربي والدولي بطريقة أكثر توازناً وفاعلية.
تدرك دمشق أن بناء علاقات متوازنة مع الولايات المتحدة ليس ترفاً سياسياً، بل ضرورة استراتيجية لتمكين التعافي الاقتصادي وتثبيت الاستقرار الإقليمي، فواشنطن ما تزال تمتلك أدوات التأثير الأوسع في الملف السوري..
وتكتسب الزيارة رمزيتها الخاصة كونها الثانية للرئيس الشرع إلى الولايات المتحدة بعد خطابه التاريخي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، شهر أيلول/ سبتمبر الماضي، ولقائه عدداً من القادة الدوليين، إلا أنّ الزيارة الحالية تحمل طابعاً مختلفاً؛ إذ تمثل أوّل لقاء رسمي بين رئيس سوري وسيد البيت الأبيض منذ أكثر من نصف قرن، حدث يعكس عمق التحوّل في المقاربة السورية–الأميركية، وانتقالها من لغة القطيعة إلى دبلوماسية الانفتاح الواعي.
تدرك دمشق أن بناء علاقات متوازنة مع الولايات المتحدة ليس ترفاً سياسياً، بل ضرورة استراتيجية لتمكين التعافي الاقتصادي وتثبيت الاستقرار الإقليمي، فواشنطن ما تزال تمتلك أدوات التأثير الأوسع في الملف السوري، سواء عبر وجودها في الشمال الشرقي أو عبر نفوذها في المؤسسات المالية الدولية.
ومن هنا، فإن الحوار المباشر يمثل فرصة لإعادة ضبط العلاقة على أساس المصالح المشتركة لا التنافر، ولفتح الباب أمام شراكات عملية في ملفات الأمن، والإعمار، والتنمية.
وعلى الصعيد الأمني، شكّلت أحداث السويداء والساحل تذكيراً بمدى هشاشة الاستقرار المحلي، وأظهرت الحاجة إلى إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية والدفاعية ضمن مقاربة وطنية شاملة، كما أنّ انضمام “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) إلى وزارة الدفاع جاء خطوة في اتجاه توحيد البنية العسكرية تحت مظلة الدولة، في رسالة واضحة على أن سوريا تسعى إلى ترميم نسيجها الأمني والسياسي بطريقة مسؤولة، مع الانفتاح على دعم دولي منضبط.
اقتصادياً، تبدو التحديات أكثر عمقاً، فإعادة الإعمار لا تُقاس بعدد المشاريع بل بقدرة الدولة على إعادة بناء الثقة بين المواطن والمؤسسات، واستعادة دورة الإنتاج الوطني.
ومع انفتاح دمشق التدريجي على الغرب، تبرز الحاجة إلى شراكات اقتصادية مدروسة تضمن الوصول إلى التمويل الدولي، وتفتح المجال أمام استثمارات حقيقية في البنية التحتية والطاقة والزراعة، مع الالتزام بالشفافية والمساءلة.
لكن التعافي الوطني لا يُبنى من الخارج فقط، فداخل البلاد، يواجه السوريون تحديات اجتماعية واقتصادية مركّبة تراكمت عبر سنوات الحرب وسياسات نظام المخلوع، التي فكّكت النسيج الوطني وأضعفت الثقة بين المواطن والدولة، ومن هنا، يبرز دور المجتمع المدني السوري كعنصر مكمّل للمسار السياسي، لا بديل عنه.
ففي محافظات مثل السويداء والحسكة، أظهرت المنظمات المحلية قدرة استثنائية على لعب دور الوسيط بين المكونات، تقديم الخدمات الاجتماعية، وتعزيز مبادرات التعليم والتنمية المجتمعية، لقد أصبح العمل المدني في سوريا اليوم ضرورة استراتيجية، يسهم في تخفيف الاحتقان، وتعزيز التماسك الاجتماعي، وبناء أرضية صلبة لأي تسوية سياسية مستقبلية.
تجربة السويداء والحسكة تؤكد أن المصالحة الوطنية ليست شعاراً سياسياً، بل عملية تراكمية تبدأ من استعادة الثقة وبناء الخدمات الأساسية وتوفير فرص العيش الكريم، إنّ المجتمع المدني يمكن أن يكون جسراً بين المواطنين والسلطات، وشريكاً في صياغة السياسات المحلية، ورافعة للتنمية المستدامة، لكنه لا يستطيع وحده تجاوز أزمات الأمن والاقتصاد التي تتطلب حلولاً وطنية ودعماً دولياً متكاملاً.
سوريا اليوم لا تبحث عن عودة إلى الماضي، بل عن تموضع جديد في المستقبل، يستند إلى سيادة الدولة، وعدالة المجتمع، وشراكة دولية قائمة على الاحترام المتبادل..
إنّ الزيارة إلى واشنطن، وما تحمله من رسائل سياسية، تتكامل مع الجهود الداخلية لإعادة بناء الدولة والمجتمع، فسياسات الخارج لا تنجح ما لم تستند إلى قاعدة داخلية مستقرة، والاستقرار الداخلي بدوره يحتاج إلى بيئة دولية داعمة.
في هذا التوازن الدقيق، تتحرك سوريا الجديدة بثقة محسوبة، وهي تدرك أن طريق التعافي طويل، لكنه بدأ بالفعل بخطوات سياسية واقعية، وإرادة وطنية تستعيد زمام المبادرة بعد سنوات من التهميش والضياع.
إنّ سوريا اليوم لا تبحث عن عودة إلى الماضي، بل عن تموضع جديد في المستقبل، يستند إلى سيادة الدولة، وعدالة المجتمع، وشراكة دولية قائمة على الاحترام المتبادل، وبينما تفتح دمشق أبوابها للدبلوماسية، وتعيد ترميم نسيجها الداخلي عبر المجتمع المدني، تبرز ملامح دولة تتعلّم من جراحها، وتبني حضورها بثبات، خطوة بعد أخرى، نحو استقرارٍ يليق بتضحيات السوريين وتاريخهم.
المصدر: تلفزيون سوريا
				





