لبنان بين الدبلوماسية والتصعيد الإسرائيلي

يقظان التقي

حركة دبلوماسية نشطة في لبنان، والسباق على أشدّه مع منسوب من التوتر الذي بلغ الأقصى في تقاطع كبير بين الدبلوماسية والتصعيد مع تهديدات ٳسرائيلية بالحرب، في حال عدم نزع الجيش اللبناني سلاح حزب الله. واللبنانيون أمام خيارين: بين من يطالب بحصر السلاح غير الشرعي، وفقاً لوتيرة أسرع، ومن لا يريد تسليم الأسلحة للدولة، طالما استمرّت ٳسرائيل في انتهاك وقف ٳطلاق النار والضربات التي صارت حدثاً يومياً. وفي الوقت نفسه، يتزايد الضغط الدبلوماسي على لبنان مع حركة الموفدين لتوسيع لجنة “الميكانيزم”، والجلوس ٳلى طاولة تفاوض مباشر يخشاها لبنان، بسبب حدّة المواقف الداخلية، والخشية من التفرّع الداخلي، وٳثارة شبح الحرب الأهلية، حيث يجب أن تعطى الأولوية للحفاظ على “التماسك الداخلي”، الذي يسمح لاحقاً بالتعافي وٳعادة الٳعمار.
لا تملك السلطة اللبنانية ترف الوقت ولا بديلاً من التفاوض، فيما تتشابك المسارات بين غزّة وسورية ولبنان
يستند الحراك الدبلوماسي ٳلى ملاحظات حادّة وعدم رضا عن الأداء اللبناني، معطوفاً على تحذيراتٍ من مستنقع المراوحة والمماطلة واستمرار “الستاتيكو” في تنفيذ اتفاق 27 نوفمبر (2024)، ولأنه يرسّخ كسب حزب الله الوقت لٳعادة تأهيل نفسه، وتشجيع الحكومة اللبنانية على تسريع جهودها لٳزالة سلاحه، واستكمال انتشار الجيش في جنوب لبنان، خشية مواجهة مزيدٍ من التصعيد على نحو أكثر حدّة وقتامة في تنبؤات المندوبين عن حملة عسكرية كارثية منهجية، أحادية الجانب في مستنقع لبناني مهمل.
ويحاول الحراك الدبلوماسي المتعدّد وضع لبنان تحت المظلة العربية والدولية للتفاوض المباشر أو غير المباشر مع ٳسرائيل، في ظل قائمة الشروط والتنازلات، ومن خلال فهم عمل الديناميكية في الاتفاق الذي جرى التوصل ٳليه في غزّة، وفي اقتراح صيغة مماثلة تجاه لبنان للانتقال من حالة المراوحة تلك عبر توصيل رسائل وتقديرات للموقف ٳلى كل من الرئيس جوزاف عون وقيادة حزب الله، وتحذير لبنان من أن “صبر المجتمع الدولي ليس بلا حدود”. وهذا يعني أن البحث عن التسويات لن ينتظر وقتاً طويلاً بين المسارات السلمية المترابطة لتغيير خريطة المنطقة، والتي ستتيح فرض سيادة الدولة تحت مظلة الحماية والٳدارة الدولية المباشرة.
مع ذلك، يجادل لبنان بأنه ما زال ملتزماً بعملية سحب السلاح، ولا بد من منحه الوقت والفرصة لتنفيذها، ويسعى مع واشنطن لوضع خريطة طريق واضحة، لتخفيض تدريجي للهجمات الٳسرائيلية لتحقيق السيطرة الحصرية على الأسلحة، وتحوّل حزب الله (الثيوقراطي) ٳلى حزب سياسي عادي، من دون جناحه العسكري (رئيس الحكومة نواف سلام). والسلطة اللبنانية في موقف صعب، لا تملك ترف الوقت، ولا تملك بديلاً من التفاوض في سياق ما تتولاه حركة الموفدين من واشنطن في انخراط سياسي وعسكري واقتصادي تتولاه في غزّة وسورية ولبنان.
وتصرّ بيروت على ضرورة أن يكون لها القدرة على تحقيق نتائج في وقف الاعتداءات الٳسرائيلية، والانسحاب من النقاط المحتلة في جنوب لبنان، وفق جدول زمني، وهو ما يرفضه رئيس الوزراء الٳسرائيلي نتنياهو الذي يقول ٳنه “لا يحتاج ٳلى ضوء أخضر لضرب أعداء ٳسرائيل”، ما يضع لبنان أمام سيناريوهين: مستوى من المفاوضات الموسّعة مدنياً وسياسياً، تؤدّي ٳلى اتفاق كما في قطاع غزّة، أي ٳقامة منطقة اقتصادية منزوعة السلاح جنوب نهر الليطاني، تحت إشراف قوات دولية في المرحلة الأولى، وصولاً ٳلى اتفاق على ترتيبات عسكرية تعدّل في اتفاقية الهدنة عام 1949 على غرار ما تتولاه ٳسرائيل في سورية من استبدال اتفاقية فك الاشتباك لعام 1974، أو أن تكون متأخّرة عن التطبيق، وتكون الحرب، بالتالي، على الأبواب. ٳما تحذيراً، وإما “ٳحاطة” من أن نتنياهو قد يريد حرباً تحفظ حكومته، ويقبلها الرئيس الأميركي ترامب. وهو يرفض التفاوض الذي صاغه الجانب اللبناني، ممثلاً برئيس مجلس النواب نبيه برّي، باعتبار أن الثنائي الشيعي يناور لحفظ هيمنته في موضوع التنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن 1701، ويعمل لتجديد مهلة نزع سلاحه ويعمل على “ٳعادة بناء قدراته العسكرية من خلال تهريب السلاح من سورية” (المبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس).
يربك ذلك كله الحسابات الوطنية اللبنانية، فيقف لبنان على نقيض مقرّرات قمّة شرم الشيخ، ٳذا ما استمرّ أداء السلطة على ما هو عليه، ما يعطي ضوءاً أخضر للحرب وأقسى أشكال الإنذار هذا، ويهدّد الثنائي بتحويل موازين القوى داخل النظام السياسي نفسه وفق وثيقة اتفاق الطائف 1989، حيث يعمل الحزب باستقلالية عن الدولة (حتى في مفاوضات حول نزع سلاحه تتولاها جهات عربية مختلفة)، وما زال يملك القدرة على فرض سياساته في الداخل. وهذا لن يزول سريعاً، كمحاولته منع الانتشار اللبناني من التصويت في الانتخابات البرلمانية المقبلة، والتسبب في الانقسام داخل البرلمان، وتعطيل عمل الجلسات التشريعية، فتقف الحكومة على مفترق طرق، فإما أن تحافظ على تماسكها بالتوافق على مشروع تعديل قانون الانتخاب، وإما أن يكون مصير الانتخابات الانقسام وسط خطر وشكّ في ٳجرائها. ويتطلب هذا من القوى السياسية تقديم التسهيلات المطلوبة لإنجازها بضغط دولي في حال محاولة ٳسرائيل تعطيل اليوم الانتخابي الطويل.
يتحول الجنوب اللبناني رماداً، والدولة مدعوّة إلى تحديد دورها بوضوح بين الحرب والدبلوماسية
في الوقت نفسه، تتهاون السلطة في تصويب مناكفات الحزب والمماطلة، والخوف من الفوضى في ٳدارة الأزمة، والذهاب ٳلى أبعد من الاتفاق الأمني، بالحديث عن مفاوضات وسلام منتظر، أو ما هو أقل بقليل، فتقف الحكومة على مفترق طرق في الحرب والسلام، فإما أن تحافظ على تماسكها بالتوافق وإما أن يكون مصيرها الانقسام. لذلك تستعجل المبادرات تفعيل مبادرة الرئيس جوزاف عون لفتح مسارات تفاوضية مباشرة برؤية شاملة لموضوع السلاح مع جدول زمني لوقف الأعمال العدائية الٳسرائيلية، وتثبيت ترسيم الحدود البرية والبحرية. وأن تترافق التحرّكات الدبلوماسية مع تزخيم دعم دولي للجيش لمواجهة المرحلة المقبلة، وضمان الوحدة الوطنية المتصدّعة، وقد تكون الفرصة السياسية الأخيرة المتاحة لتجنب الأسوأ، وفرصة في خضم الديناميكيات المتشابكة لٳنقاذ لبنان نفسه.
ٳنه سياق حقيقي بين الدبلوماسية والتصعيد. ولبنان عانى من هذه المخاطر منذ 1991، وهو دولة ضعيفة لا تستطيع أن تأخذ بنفسها قراراتٍ حصرية، تؤكد انسجامها مع الديناميكية الٳقليمية التي تركز على الحوار والمفاوضات، وأنها لا يمكن أن تبقى على هامش هذه المرحلة الجديدة. فلا الحزب يردّ على طلباتها بحصر السلاح، ولا ٳسرائيل ترتدّ وتنسحب وتوقف عملياتها الحربية، فتجد الدولة نفسها في ظل اتفاق غير قابل للتطبيق. لذلك، عليها الانتقال لتحديد دورها مجدّداً، ليس من خلال تضخيمه “سوبر دولة”، بل الاعتراف بضعفها والتعامل بوضوح تام مع الالتزامات الدولية والتموضع الاستراتيجي (المحدود)، والمضيّ في تعهداتها في حماية سيادتها ومصالحها، فالجنوب تحوّل ٳلى رماد. وبالنظر ٳلى أن الحزب يتعرّض لضغوط من جميع الجهات، للتخلي عن حماسته الحربية وضرورة الاندماج حصرياً في الحياة السياسية، والحاجة ٳلى النظر في المستقبل، فالدولة ومؤسّساتها والمجتمع المدني لم يعودوا قادرين على احتمال التعبئة العسكرية، والجمع بين خطين متناقضين في استراتيجية الوقت الضائع في لحظة صياغة خرائط القوة والسيطرة في المنطقة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى