ثقافة “مع أو ضد”.. انقسام سوري في وسائل التواصل الاجتماعي

د. طلال المصطفى

منذ سقوط نظام الأسد  أواخر عام 2024، تحوّلت وسائل التواصل الاجتماعي لدى معظم السوريين المهتميين بالشأن العام، ولا سيما منصة ” فيس بوك” إلى أهم ميدان للتعبير السياسي والاجتماعي، وإلى ما يمكن وصفه بـ«الاعلام العام البديل». غير أن هذا الفضاء الإعلامي  لم يتبلور كمجال حر قائم على النقاش العقلاني، بل كامتداد افتراضي للصراع السياسي والاجتماعي في الواقع، محكوم بالثنائية نفسها التي صاغها نظام الأسد  لعقود “إما معنا أو ضدنا”.
ففي معظم النقاشات  السياسية ، يُنظر إلى الرأي المختلف لا بوصفه إثراءً للحوار، بل تهديدًا وجوديًا لموقف الجماعة السياسية أو الطائفية، ومع تصاعد هذا المنطق الثنائي، تتحول اللغة إلى أداة صراع رمزي تُستخدم لإقصاء الخصوم ونزع الشرعية عنهم، وهكذا تتجسد مقولة عالم الاجتماع ( بورديو ) بأن «الصراع على المعاني هو في جوهره صراع على السلطة”.
المنشورات السياسية على «فيس بوك السوري» لا تُستخدم فقط للتعبير عن المواقف السياسية، بل أيضًا لإعادة بناء الحدود الرمزية بين «الوطني والخائن»، «الثوري والمتخاذل»، أو « العلماني والإسلامي». هذه الحدود تُنتج هويات افتراضية صلبة، وتُعيد تعريف الانتماء الوطني وفق معايير ضيقة، ما يؤدي إلى استبعاد الأصوات الموضوعية، التي ترفض الاصطفاف في أحد المعسكرين.
العنف الرمزي في الإعلام الاجتماعي السوري
يتجلى العنف الرمزي في الفضاء الرقمي السوري من خلال مجموعة من الممارسات اللغوية والسلوكية التي تعيد إنتاج منطق السيطرة والإقصاء، منها:
وصم  المخالف في الرأي بأنه عميل أو تابع لقوى معادية، وهي ممارسة تعيد إنتاج أدوات النظام  الأسدي السابقة في نزع الشرعية عن المعارضين له.
استخدام السخرية كلغة للعنف الرمزي، إذ تؤدي إلى تقويض مكانة المخالف وإلغاء صوته من دون حاجة إلى نقاش موضوعي.
يُعاد استحضار الانتماءات الطائفية والمناطقية كآلية لتفسير المواقف، فيتحول الاختلاف السياسي إلى صراع بين «هويات» طائفية  لا بين أفكار.
تُستخدم لغة الأخلاق والكرامة لتجريد الخصم من مكانته الرمزية، تمامًا كما كان النظام السابق يستخدم مفردات «الانحراف» أو «الخيانة الوطنية”.
بهذه الممارسات، تتحول وسائل التواصل الاجتماعي إلى مجال لإعادة إنتاج الهيمنة الرمزية التي كان النظام السابق يمارسها في الإعلام الرسمي، ولكن بأدوات رقمية شعبية هذه المرة.
نجوم فيس بوك وجماعاتهم التشبيحية
ظهرت في هذا الفضاء الإعلامي الاجتماعي  فئة جديدة يمكن تسميتها “نجوم الفيس بوك “، وهم ناشطون ومثقفون امتلكوا القدرة على توجيه النقاشات العامة وخلق جماعات متفاعلة حولهم. هؤلاء غالبًا ما يقدمون آراءهم بوصفها «الحقيقة المطلقة»، في حين يتحول جمهورهم إلى جماعة تشبه في سلوكها «الكتائب الإلكترونية» التي عرفها السوريون في عهد نظام الأسد.
عندما يواجه هؤلاء «النجوم» نقدًا أو رأيًا مخالفًا، يتولى جمهورهم الرد بالهجوم والسبّ والتخوين، في ممارسة جماعية للعنف الرمزي تحاكي الرقابة السلطوية القديمة. وهكذا يُعاد إنتاج «البنية السلطوية» نفسها ولكن داخل علاقات اجتماعية أفقية.
يمكن تفسير هذه الظاهرة بكونها استمرارًا لما يسميه (بورديو) “الاستبطان الجمعي للسلطة”، أي أن الأفراد، حتى في غياب السلطة الرسمية، يعيدون إنتاج أساليبها لأنهم تشربوها في بنية وعيهم، هذه الشبكات الاجتماعية الجديدة ليست مجرد تفاعلات افتراضية، بل شبكات سلطوية تمارس الضبط والإقصاء باسم الحرية.
الانقسام الافتراضي وانعكاسه على النسيج الاجتماعي
الانقسام الافتراضي ليس معزولًا عن الواقع، بل يمتد ليؤثر في البنية الاجتماعية. فالفصل بين المواقف السياسية والهويات الطائفية أو المناطقية أصبح أكثر ضبابية؛ وغالبًا ما يُختزل الفرد في موقعه الرمزي داخل الصراع الافتراضي.
يؤدي هذا إلى تشكل ما يمكن تسميته “الجزر الافتراضية المنفصلة”، وهي فضاءات مغلقة تتفاعل فيها مجموعات متجانسة فكريًا وتُقصي المختلفين عنها. هذه الجزر تعمّق الشرخ الاجتماعي، وتمنع تكوين فضاء وطني سوري جامع، إذ تحوّل التواصل إلى تبادل داخلي داخل كل جماعة لا بين الجماعات المختلفة.
ومع مرور الوقت، يصبح الانقسام الافتراضي أحد محددات الوعي الجمعي، خاصة لدى الأجيال الجديدة التي لم تختبر المجال العام الواقعي قبل الثورة 2011. فهؤلاء ينشأون في بيئة رقمية تُعيد إنتاج الانقسام وتقدّمه بوصفه الشكل الطبيعي للعلاقات الاجتماعية.
متطلبات تجاوز ذهنية ” مع أو ضد”
يتطلب تجاوز ثقافة “مع أو ضد” معركة على مستوى البنى الثقافية والنظم القيمية السورية، وليس فقط على مستوى السلطة السياسية فقط. يحتاج المجتمع السوري إلى إعادة تأسيس قيم الاعتراف بالاختلاف، وتطوير تقاليد نقدية قائمة على الحوار العقلاني، وإرساء آليات للرقابة المجتمعية الذاتية بدل الرقابة السلطوية.
كما تبرز الحاجة إلى بناء منصات مشتركة تعزز التعاون بين الجماعات المختلفة، وتفعيل الثقافة والفن كأدوات لإعادة بناء الثقة بين الأفراد والجماعات. هذه المعركة الثقافية لا تقل أهمية عن المعركة السياسية، لأنها تتعلق بإعادة إنتاج النسيج الاجتماعي على أساس من التنوع والاعتراف بالآخر، بدل الاستقطاب والاستبعاد.
كذلك إعادة بناء اللغة العامة، فاللغة ليست أداة للتعبير فقط، بل حاملة للسلطة. إعادة بناء الخطاب العام تعني تطوير مفردات جديدة تقوم على الحوار والاعتراف، وإحلال مفردات «النقاش» و«الاختلاف» محل مفردات «الخيانة» و«الاصطفاف». يجب أن تتحول اللغة من وسيلة للهيمنة إلى أداة للتواصل الاجتماعي الحر. وهذا يحتاج إلى بيئة اجتماعية تشجع على النقد الذاتي والمساءلة لا على الطاعة والاتباع. من خلال إجراء إصلاح عميق في مؤسسات التنشئة الاجتماعية: التعليم، الإعلام، والثقافة. فالمدرسة والجامعة والمنصات الثقافية يجب أن تكون فضاءات لبناء شخصية نقدية قادرة على التفكير المستقل لا تكرار المقولات الجاهزة.
الأهم  تحويل وسائل التواصل الاجتماعي  إلى فضاءات إعلامية تشاركية، على الرغم من أن وسائل التواصل الاجتماعي أسهمت في إعادة إنتاج الاستبداد الرمزي، فإنها تمتلك أيضًا إمكانية عكسية للتحرر. فهذه المنصات يمكن أن تكون مجالًا لبناء شبكات مدنية جديدة إذا ما توفرت فيها آليات أخلاقية للتفاعل: احترام الرأي المختلف، تنظيم النقاشات، مقاومة خطاب الكراهية، وتشجيع الحوار العابر للهويات المناطقية والطائفية.
تكشف التجربة السورية في الفضاء الافتراضي الاعلامي أن سقوط النظام الأسدي لا يعني بالضرورة سقوط منظومته الثقافية. فـ«الديكتاتور الداخلي» الذي تحدثت عنه (حنّة آرندت) ما يزال قابعًا وفاعلًا في عقول معظم السوريين وسلوكهم، موجهًا تفاعلاتهم حتى في أكثر فضاءات الحرية انفتاحًا.
إن تفكيك ثقافة “مع أو ضد” في الفضاء الرقمي السوري يمثل شرطًا أساسيًا لبناء مجتمع ديمقراطي حديث. فالتحرر الحقيقي لا يتحقق بإسقاط النظام الأسدي فحسب، بل بإعادة بناء القيم التي تنظّم التفاعل الاجتماعي، وتحويل الخلاف من مصدر صراع إلى قيمة مضافة في المشروع الوطني الجامع للسوريين كافة. إن مستقبل سوريا الديمقراطية يتوقف على قدرتها على هزيمة الاستبداد المستبطن في العقول، وبناء فضاء إعلامي تواصلي مفتوح يؤمن بالتعددية والاعتراف المتبادل بوصفهما جوهر المواطنة الحديثة.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى