
لا تخلو وثائق التاريخ الفلسطينية والعربية، من تسريبات وحقائق عن الخديعة والمؤامرة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني، في الثاني من تشرين الثاني عام 1917، من قبل القوى الاستعمارية في المنطقة العربية، فكان وعد بلفور المشؤوم، الركيزة الأساس للمشروع الصهيوني في فلسطين، والذي أصبح مع مرور الزمن بمنزلة تعهد ” أبدي” بالحفاظ على نموه بالطريقة التي خدمت وتخدم المصالح المتبادلة بين الدولة العربية الناشئة من سايكس بيكو 1916، حتى النكبة الفلسطينية 1948، وبين القوى الاستعمارية، ولمن يرغب بمراجعة وثائق ورسائل وتفاهمات الحكومة البريطانية آنذاك، مع بقية الدول الاستعمارية وممثليها في المنطقة، فبإمكانه العثور عليها بسهولة، لكثرة الرسائل والعناوين والكتب والوثائق المرتبطة بهذا الحدث، ولا تخلو ذاكرة الفلسطينيين الجماعية بخيوطها المتشابكة التي تضج بدمهم المسفوك منذ بلفور، وإلى الآن، من تذكر ذاك اليوم المشؤوم بتاريخهم الذي أصبح فيه الوعد الخرافي حقيقة من دمهم وعذابهم.
تطل ذكرى وعد بلفور اليوم، لتفكك شيفرة فهمه وما حدث؟ وكيف مرت الخديعة الاستعمارية على المنطقة العربية، وعلى الشعب الفلسطيني؟ وهنا لا نعود لكتب مؤرخي حقبة الوعد، والفترة التي سبقت ولحقت عهد انتداب بريطانيا على فلسطين، وتأسيسها الأرضية المناسبة لقيام المشروع الصهيوني، وتحقيق وعد من لا يملك لمن لا يستحق، تسهيلاً وتسليحاً، وتدريب للعصابات الصهيونية المستوردة من أصقاع الأرض إيماناً بنبوءة ” الوعد الإلهي ” وأساطير التلمود، إنما من واقعة تغييب هذا الحدث والذكرى عن وقائع الحياة الفلسطينية والعربية عن أجهزتها الإعلامية والتربوية، والتوقف عن تكريس هذا التاريخ الأسود وشرح مضامينه ومعانيه، ومخاطره التي لم تتوقف حتى يومنا هذا، ولماذا يغيب بلفور الآن عن وقائع تربوية ؟ لأن كل ذلك يصب في إطار المحاولات الجارية ومن دون توقف، لمحو ذاكرة جماعية عربية وفلسطينية، وقد نجحت في أحد جوانبها عندما يقترب المرء من تفكيك شيفرة ما يتعرض له الشعب الفلسطيني اليوم من جرائم إبادة جماعية وضد الإنسانية في غزة وعموم فلسطين.
فلا حاجة اليوم لانتظار عقودٍ من الزمن، لكشف خفايا وأسرار الواقع، ولا مؤامراته وخديعته، كل ذلك ينقل عبر الأثير، وعلى الهواء مباشرة، يشاهد ويسمع الإنسان العربي، فصول من جرائم إبادة شعب فلسطين، وتوسع العدوان الإسرائيلي الذي يشمل سيادة عربية، والفرجة العربية الرسمية عليهما، بمنزلة توقيع يضاف للوثيقة الأولى التي كتبها وزير خارجيّة المملكة المتحدة آرثر بلفور إلى اللورد ليونيل دي روتشيلد أحد أبرز أوجه المجتمع اليهودي البريطاني حينها، وذلك لنقلها إلى الاتحاد الصهيوني لبريطانيا العُظمى، فالاستمرار بالتطبيع مع ما تحقق من وعد بلفور، والتحالف مع المؤسسة الصهيونية، زمن جرائم الإبادة الجماعية في غزة، والاستمرار في طمس الحقائق وتزويرها، بالتستر على شرور المؤسسة الصهيونية، وشيطنة مقاومة ضحايا الوعد الأسود ونسلهم، والقبول الضمني بالقضاء عليهم وإبادتهم، يبقى الوجه القبيح للوعد الأول.
الآن، رغم عمق الظلم التاريخي الذي وقع على الشعب الفلسطيني، من الوعد المشؤوم الى النكبة والهزيمة العربية، إلى جرائم الإبادة الجماعية في غزة، و الاستمرار في طمس الحقائق، والتستر على الشرور والجرائم، هي وعود متبادلة بين أشقاء بلفور الإنكليزي مع البلافرة العرب الرسميون، وبين دولة الاحتلال، تستر متبادل فضحته عقود النكبة الفلسطينية، ومن ثم أعوام النكبات والهزائم العربية في مرحلة قمع الثورات العربية، وصولاً لجرائم الإبادة الجماعية، في الوقت الذي يعزز فيه ” وعد بلفور” حضوره منذ ذاك التاريخ، يسرب بلفور العربي تفاهماته و تطميناته لدولة الاحتلال، وصولاً للتعاون الوثيق معها، الذي فُقد اتجاه المنكوبين أصحاب الأرض، الذين اقتلعوا منها بجريرة أساطير خرافية، ووعود مزعومة.
من عواصم عربية، تتكاثر وعود بلافرة العرب لتل أبيب، يطمئن صاحب الوعد، إلى الأثر العميق الذي تركته استثماراته الأولى بالنظام العربي، بتعهدات مماثلة بالحفاظ على وعده مقابل أن تنال رضا التمدد والاستثمار في السلطة بزمن استمرار المحتل، مائة عام وثمان سنوات، يتجسد الوعد في ” دولة ” تسوق مؤسساتها وكيانها، بأن نسل الجد بلفور، بات مقيماً في عواصم العرب، بل ويجهر منها بعضهم بأنه لن يهدأ له بال حتى يتم كي وعي المنكوبين، يرطن بهذا لسان عربي لهدفٍ عبري.
لسان بلفور العربي، يلهج بقول “نحن أولاد اليوم” والماضي مضى وانتهى، لتبرير ما تقترفه وعوده تغطية على جرائم متواصلة، ولسان العربي يقول كانت مصيبتنا ببلفور واحد، حتى باتت المسألة متجلية من استبدال الوعود إلى تقديم الضمانات والتنسيق الأمني للدفاع عن وجود المستعمر، وفتح الأبواب الخلفية والأمامية أمام إسرائيل، على اعتبار انهم “أولاد اليوم” وهي ابنة وعد الماضي، وبالتالي توقيع الاتفاقات السرية والعلنية معها، وتشريع ما وعد به بلفور الأمس مع بلافرة الحاضر، كان مقدمة لتطور ونهوض ونجاح ما تحقق للمشروع الصهيوني، الذي يشكو كذباً بلافرة اليوم جلادهم الذي أصبح حليفهم في مكافحة “الإرهاب”.
يتضح من تصرفات بعض العرب الراطنين بعبرية السلوك، سعادتهم وفخرهم بما يبذلونه، للإبقاء على الوعد “الأساسي”، فكل البلافرة المحيطون بفلسطين، أو الذين يبكونها أو يتنافخون باسمها، قدروا وجودهم المرتبط بحراسة الوعد، بمواصلة قمع المنكوبين وأشقائهم، ليكون الوعد الخرافة “حقيقة” تطورت من الاعتراف إلى الإعجاب بالمستعمر وطلب التحالف معه، والأكثر خطورة ووهماً أن تصبح إسرائيل خلاصاً ومنقذاً عند بعض المتعبرنين العرب، في حين تُدمر الأوطان كُرمى للوعد الأول.
لم تنته كل المشاريع المشبوهة من بلفور وإلى اليوم، في محاولة إفناء شعب وقضية، لكن بقي الفلسطيني والعربي حياً بذاكرته وبوعيه لحقه، وعدالة قضيته التي تحفظ انتماءه، حاملاً الأمل في القلب والضمير المختزن لهذا الإيمان “خوفاً من القهر الرسمي العربي” انتظاراً لزمنٍ يستطيع أن يقوم بدوره المباشر في تحقيق هذا الأمل، وبخلاف ما يرجوه الراطنون بعبرية التبشير بالموت العربي المتأبد.
المصدر: تلفزيون سوريا






