انتخابات مصرية محسومة وأصوات تتحدّى العزلة

أحمد ماهر

                         

كثيرة الدراسات التي حاولت تفسير أسباب إخفاق ثورات الربيع العربي، فمنها من أرجع الأمر إلى مرونة الأنظمة السلطوية وقدرتها الفائقة على التكيف السريع مع الأزمات، ومنها من رأى أن غياب التوافق بين قوى التغيير حول شكل النظام المنشود كان سبباً رئيساً، غير أنني أرى أن السبب الأعمق والأخطر تمثل في عجز القوى المحسوبة على المعارضة عن بناء تحالفات متينة أو صياغة مشروع وطني جامع يوحّد الصفوف ويحدد الأهداف.

تذكّرت هذه الفكرة مع بداية ما يمكن وصفه بـ”مهرجان الانتخابات” في مصر، إذ ستنصرف الأنظار إلى هذا الحدث، الذي يُفترض أن يكون محدّداً رئيساً لشكل المرحلة المقبلة، فالبرلمان، وفقاً للدستور، هو الجهة المخوّلة بالموافقة على تشكيل الحكومة، وهو المسؤول عن سنّ القوانين المنظّمة للحياة العامة، وعن مراقبة أداء السلطة التنفيذية ومحاسبتها، بل له صلاحية تعديل الدستور ذاته.

ومن ثمّ، من الطبيعي أن تتجه الأنظار كلها نحو البرلمان المقبل، الذي سيحدّد ملامح الخريطة السياسية في السنوات المقبلة، والذي يتوقع بعضهم أن يتم من خلاله تعديل الدستور، خصوصاً المواد المتعلقة بالفترات الرئاسية.

وقد بدأت المجموعات السياسية المختلفة تعيد الاصطفاف والتحزب، بين مناصري هذا التحالف أو ذاك، وبين من قرّروا المقاطعة وعدم المشاركة في العملية برمتها، باعتبارها، من وجهة نظرهم، فقدت معناها وتحوّلت إلى مشهد هزلي متكرّر.

وشخصياً، أعبّر عن احترامي الكامل كل تلك الخيارات، سواء لمن اختار خوض المعركة الانتخابية مستقلّاً رغم إدراكه ضعف فرصه في ظل هيمنة رأس المال الانتخابي وانتشار الرشاوى المقنّعة في شكل مساعدات غذائية، أو لمن قرّر الدخول ضمن القوائم الموحدة إلى جانب أحزاب السلطة بهدف إيجاد مساحة حضور داخل البرلمان تتيح له بناء قدراته السياسية مستقبلاً، أو حتى لمن اختار المقاطعة والابتعاد عن المشهد كله، فالمقاطعة، مهما اختلفنا حولها، تبقى خياراً سياسياً مشروعاً.

من واجبنا دعم كل المرشحين القلائل المحسوبين على “تيار يناير”، أو على قوى الإصلاح الحقيقية

وأعلم جيداً أن شروط الترشّح غير عادلة، وأن القوانين الانتخابية مجحفة، وأن نظام القوائم المغلقة صُمم ليضمن فوز قائمة بعينها، ويمنح أحزاب الموالاة أغلبية ساحقة، بغض النظر عن الكفاءة أو التمثيل الحقيقي. أما نصف البرلمان الآخر، المخصّص للمستقلين، فيخضع لسطوة المال السياسي، إذ تحكُمه قدرات المرشّح على الإنفاق وتوزيع المساعدات والرشاوى الانتخابية، ما يجعل الفوز، في أحيانٍ كثيرة، مرهوناً بما يُنفق لا بما يُقدَّم من برامج أو أفكار.

وكما جرت العادة، وللأسف الشديد، تتكرّر مشاهد التشتت والتخبط داخل صفوف المعارضة، تماماً كما كان الحال منذ ما قبل عام 2005 وما بعدها. الجميع اليوم في حالة إنهاك وضغط بعد سنواتٍ من الهزائم والانكسارات، والمساحات التي فُتحت قليلاً في العامين الماضيين بدأت تضيق من جديد. لكن هذا لا يبرّر حجم الفوضى والانقسام الحاليين، فالخلافات طاولت حتى الصف الواحد؛ فالحركة المدنية، مثلاً، التي يُفترض أن تكون المظلة الأوسع للمعارضة المصرية، شهدت انقساماتٍ داخلية خرجت منها مجموعات وتحالفات متنافسة بلا تنسيق، حتى وصل الأمر إلى أن يترشّح محسوبون على المعارضة بعضهم ضد بعض، في مشهد يختزل حجم الترهل والتناحر القائم، والأدهى أن التخوين والتلاسن باتا السمة الغالبة بين بعض الأصوات ذات الحضور الإعلامي، بل وأصبحنا نرى مواقف متناقضة حدّ السخرية.

في النهاية، تبدو العملية الانتخابية في جوهرها إجراءً شكلياً لا أكثر، تُقام لأن الدستور يقتضي إقامتها، أو لضرورة استكمال الصورة المؤسّسية والإجرائية أمام الغرب، لا لأنها تعبير حقيقي عن إرادة الشعب، فالنتائج محسومة سلفاً، والبرلمان المنتظر لن يمتلك، في أغلب الظن، القدرة على مساءلة الحكومة أو مراقبة الموازنة أو ممارسة دوره الرقابي بجدّية، لأنه ببساطة سيكون خاضعاً بنسبة كبيرة للسلطة التنفيذية.

رغم الحصار الشديد من المهم التواصل مع الجمهور ولو لوقت محدود

ومع ذلك، قرّر أصدقاء خوض المعركة، رغم علمهم المسبق بنتائجها، رغبةً في كسر العزلة المفروضة على القوى المعارضة، ومحاولة التواصل مع الشارع ولو في أضيق الحدود. وشخصياً، رغم عدم ترشّحي لتلك الانتخابات فعليّاً، إلا أنني اكتشفت، قبل عدة أسابيع، أنني ممنوع من ممارسة حقوقي السياسية، وممنوع من الترشّح للانتخابات البرلمانية، بسبب الحكم السابق بالحبس في قضية تعود إلى عام 2013، كانت تهمتها “التظاهر من دون تصريح”، وهي ليست تهمة مخلّة بالشرف. ومع ذلك، استُخدمت ذريعة، ولكن كان هناك منع صريح لبعض من تقدّموا بالترشّح رسمياً، من المحسوبين على المعارضة أو ثورة 25 يناير، بعضهم نواب سابقون، ولدى بعضهم شعبية مقبولة وفرصة ما للفوز، وهو ما يعطي مؤشّراً إلى كيف تريد السلطة ذلك البرلمان.

وبرغم ذلك كله، أرى أن واجبنا دعم كل المرشحين القلائل المحسوبين على “تيار يناير”، أو على قوى الإصلاح الحقيقية، فحتى في ظل انتخابات غير عادلة ومحسومة النتائج، من المهم الحفاظ على خيط تواصل مع الجماهير، ولو من داخل منظومة انتخابية مختلة، فباستثناء عامي 2011 و2012، لم تعرف مصر انتخابات عادلة إلا نادراً، لكن الأمل في التغيير لا ينبغي أن ينقطع مهما كانت الظروف قاسية. ورغم الحصار الشديد، من المهم التواصل مع الجمهور ولو لوقت محدود، حتى لو من داخل انتخابات سابقة التجهيز أو محسومة النتائج. ولذلك تبقى كل محاولة لإيجاد صوت مسموع، ولو جزئياً، ضروريةً لاستمرار المحاولات.

 

المصدر: العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى