“الإخوان” السوريون.. و”قابلية” تحدّي السلطة في دمشق

إياد الجعفري     

تموضعت جماعة “الإخوان المسلمين” السورية، على صعيد الخطاب السياسي، إلى يسار النخبة الفعلية الحاكمة للبلاد، بوصفها “إسلامًا سياسيًا”، وذلك عبر وثيقة “العيش المشترك في سوريا” الصادرة عنها قبل أيام. تموضعٌ يؤشّر إلى اشتباكٍ سياسي وخطابي وفكري مرتقب، قد يُكتب له أن يكون إثراءً إيجابيًا للمجال السياسي العام في سوريا، أو أن يأخذ مسارًا نحو صدامٍ تُستخدم فيه أدوات القهر، بما يعزّز الاستقطابات الحادّة في النسيج السوري، لكن هذه المرة، داخل “المكوّن السُّنّي” ذاته. ومن سيقرّر ذلك تحديدًا، هم صنّاع القرار في رأس هرم السلطة بدمشق.

وفيما تُقلّل فئة محددة من المراقبين من قيمة الوثيقة “الإخوانية” الأخيرة، مستندين إلى قراءة مفادها أن “الإخوان” في سوريا يفتقدون إلى الحضور الشعبي، ويعانون من “شيخوخة” على صعيد قياداتهم وأدواتهم وتكتيكاتهم في العمل السياسي، نجد في المقابل أن “النزق” الذي عبّر عنه مستشار الرئيس للشؤون الإعلامية أحمد موفق زيدان، في مقاله المثير للجدل “متى ستحل جماعة الإخوان المسلمين في سوريا نفسها؟”، في موقع “الجزيرة نت”، بتاريخ 22 من آب الفائت، أكبر دليل على استشعار الممسكين بزمام السلطة لوزن “الإخوان” الرمزي في المشهد السوري، والذي يملك إمكانية التحوّل إلى فاعلية تنظيمية قادرة على أن تنازع السلطة في مساعيها لاحتكار “الفضاء السياسي السُّنّي” في سوريا.

قد نفت الجماعة رسميًا، منذ شباط الفائت، أكثر من مرة، أن تكون على موقع “تنابذ” مع السلطة الحاكمة، ومع شخص الرئيس الشرع.

وفيما ينفلت خطابٌ تحريضي طائفي إقصائي من جانب بعض الشخصيات ورجال دين المحسوبين على تيارات قريبة من التركيبة الحاكمة للبلاد، بصورة أزكت الاستقطابات بين مكونات النسيج السوري، جاءت وثيقة “العيش المشترك” الصادرة عن “الإخوان” لتُصوّب على نقطة الضعف هذه في أداء السلطة الحاكمة.

فالصف الأول من رجالات السلطة يقدّم خطابًا غاية في الاعتدال والوسطية، لكنهم يعجزون عن ضبط شخصيات من الصف الثالث أو حتى الرابع من السلطة، أو من المقرّبين منها، ممن يقدّمون خطابًا معاكسًا بالمطلق على صعيد القول والممارسة في كثير من الأحيان. وهو عجزٌ يضرب “الإخوان” على وتره الآن.

وكان الملفت أن الانتقادات المحدودة التي كانت تُطلق من هنا وهناك، من جانب شخصيات محسوبة على “الإخوان”، حيال أداء السلطة في دمشق، خاصة على صعيد علاقاتها المتجاوبة بشدة مع طلبات الخارج، بقيت من دون أثرٍ تفاعلي يمكن تسجيله. وقد نفت الجماعة رسميًا، منذ شباط الفائت، أكثر من مرة، أن تكون على موقع “تنابذ” مع السلطة الحاكمة، ومع شخص الرئيس الشرع. وأن موقفها من السلطة القائمة هو “موقف الداعم الناصح الأمين، الحريص على إنجاح عملية بناء الدولة المدنية الحديثة بمرجعية إسلامية”، وفق ما ورد في بيان “مجلس شورى” الجماعة في 7 آب الفائت.

لكن البيان المشار إليه ذاته كان السبب العميق لأول ردّ فعل من جانب السلطة، إذ إنه صدر على وقع تداعيات أحداث السويداء منتصف تموز الفائت. وقد تضمّن البيان انتقاداتٍ مبطّنة لأداء السلطة، في عبارات من قبيل: “الاستقرار يسهلُ نوالُه بإشراك جميع المكونات السوريّة بشكل فعّال في تنمية وبناء الدولة ضمن برنامج سياسي تعددي”، والتأكيد على “تبنّي خطاب العيش المشترك، والابتعاد عن لغة التأجيج الطائفي”. وقد مهّد هذا البيان لصدور “وثيقة” مرتقبة تعكس “رؤية الجماعة للعيش المشترك في سوريا ومبادئ ضامنة لتحقيق سلمٍ أهليٍ واجتماعيٍ يشمل جميع السوريين”.

بعد بيان “مجلس شورى الجماعة” بأسبوعين فقط، نُشر مقال مستشار الرئيس الداعي لحلّ الجماعة. ولم يُقدَّم المقال باعتباره موقفًا رسميًا، لكن كان من الصعب فصله عن التفاعلات داخل رأس هرم السلطة، خاصة بعد ما أعقبه من تصريحات نُسبت إلى الرئيس الشرع، في لقائه مع وفد إعلامي عربي موسّع في 24 آب الفائت، قال فيها إنه ليس امتدادًا لثورات “الربيع العربي” ولا “للأحزاب الإسلامية سواء التنظيمات الجهادية أو الإخوان المسلمين”.

مواجهة هذا التحدّي تكون بتحسين أداء السلطة عبر ضبط المحسوبين عليها، والضرب على أيدي المحرّضين طائفيًا منهم، على صعيد الخطاب والممارسة.

وفيما تقوم أبرز دعامة لدعوى ضرورة حلّ الجماعة على غياب أي فاعلية لها في الداخل السوري، بعد عقود من التهجير القسري في حقبة نظام الأسد، كان تعيين أسامة الرفاعي مفتياً عامًا لسوريا ورئيسًا لمجلس الإفتاء الأعلى في آذار الفائت، مؤشرًا على توازن القوى –الرمزي على الأقل– بين تيارات “الإسلام السياسي والعقائدي” السوري. ومن المعروف أن للرفاعي صلاتٍ شخصية مع جماعة “الإخوان” منذ مطلع الثمانينيات، كانت سببًا لتهجيره مع شقيقه لعقدٍ من الزمان في عهد الأسد الأب. ورغم عدم ثبوت الصلة التنظيمية للشيخ الرفاعي بـ”الإخوان”، إلا أنه يُعدّ قريبًا منهم بالفهم العقائدي العام للإسلام، مقارنة بالفهم “السلفي” الذي يشكّل أساس “عقيدة” معظم المحسوبين على السلطة الراهنة. كذلك من المعلوم رمزية “الإخوان” في الأوساط “السُّنية” المدينية، رغم المآخذ عليهم لأدوارهم في جرّ “الوسط السُّني” إلى صراعٍ مُكلِف مع نظام الأسد في مطلع الثمانينيات.

الخبرات التنظيمية، إلى جانب البيئة المدينية التي قد ترحّب بأفكار سياسية –إسلامية– أكثر اعتدالًا من نظيرتها “السلفية”، نظرًا لأنها حاضنة تاريخية لها، إضافةً إلى عجز السلطة وأخطائها الكبيرة في معالجة معضلات العلاقة مع مكونات النسيج السوري غير السُّنية، كلّ ذلك يشكّل روافع ستعمل جماعة “الإخوان” على البناء عليها في خلق فاعليةٍ لها على الأرض. وقد تجد تحالفاتٍ مرحّبة في أوساط من المشيخة السُّنية التقليدية المستاءة من تمدّد الفكر “السلفي” ورموزه، والتضييقات المرتبطة به.

بطبيعة الحال، يمكن إيراد جملةٍ واسعة من الانتقادات الصادرة عن شخصيات خبِرت العمل المعارض مع “الإخوان”، سواء على صعيد أداء الجماعة السياسي، أو على صعيد خطابها الفكري المتناقض مع ممارساتها على أرض الواقع، خاصة خلال عقدي الثورة ضد بشار الأسد. وبقدر ما تستوجب هذه الانتقادات مراجعاتٍ جادّة من قيادة “الإخوان”، بقدر ما أنها لا تنفي قابلية تحوّل الجماعة إلى لاعبٍ سياسي قادر على تشكيل تحدٍّ للسلطة الراهنة.

هذه القابلية، هي تحدٍّ إيجابي، لو توافر لدى صنّاع القرار في أعلى هرم السلطة، الوعي الكافي بضرورة ترك المجال العام في سوريا متاحًا للتدافع والصراع الفكري والسياسي. وأن مواجهة هذا التحدّي تكون بتحسين أداء السلطة عبر ضبط المحسوبين عليها، والضرب على أيدي المحرّضين طائفيًا منهم، على صعيد الخطاب والممارسة. أو أن يكون السيناريو البديل استخدام أدوات القهر والعنف الأمني ضد هذا التحدّي، مما سيجعل “الوسط السُّني” السوري مقبلًا على استقطاباتٍ أكثر حدّة مما هو عليه الآن، ويفتح الباب واسعًا أمام احتمال الانزلاق نحو عنفٍ سياسيٍّ مُكلِف لجميع السوريين.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى