
لما كانت العولمة تمثل أعلى مراتب الهيمنة الرأسمالية الإمبريالية، فإنها، بما تملك من أدوات وإمكانيات هائلة، تعمل لتعميم نموذجها الثقافي والاجتماعي الذي يناسب تطلعاتها والتي تتلخص بالسيطرة على موارد العالم أجمع وتحويل أبنائه إلى أفراد مستهلكين لا هم لهم سوى الإستهلاك والمزيد من الإستهلاك لتزداد أرباح القوى الرأسمالية صاحبة العولمة وصديقتها الوفية ومالكة كل أدواتها..
ولما كان هذا يتطلب التحكم بأبناء المجتمعات الإنسانية وتوجيههم بما يحولهم إلى أفراد مستهلكين ؛ فإنه يتطلب لكي يتحقق ، إزاحة كل ما يعترض سبيله من عوائق خاصة بكل مجتمع وعوائق عامة مشتركة بين جميع الناس..وهذا ما تفعله العولمة بالعقول والنفوس..
ولكن : أليست العولمة هي التي حولت العالم إلى ما يشبة القرية المتداخلة بحيث يعرف الإنسان خلال لحظات كل ما يجري في بلاد العالم ؟
أليست وسائل العولمة الإعلامية هي التي حملت مشاهد الإجرام الصهيوني في غزة وفلسطين إلى كل العالم مما أدى إلى تلك التحركات الشعبية المؤيدة لفلسطين والمستنكرة لحرب الإبادة الصهيونية ؟
نعم هي كذلك ..ولولاها لما حصل هذا وما يحمل من إيجابيات..
ورغم ذلك فإن تحديات العولمة ومخاطرها على الأجيال الجديدة تبقى مصدر قلق بالغ بشأن مستقبل هذه الأجيال ومدى قدرتها على صياغة حياتها وبناء مستقبلها المتحرر من الهيمنة والإستبداد والتبعية..
فالعولمة تمثل تلك الطفرة الهائلة في وسائل التواصل الإعلامي بين البشر بما فيه من معلومات وما يثيره من قضايا وإهتمامات..كذلك التواصل المادي بما فيه من إنتقال للأشخاص وللبضائع من أقصى الأرض إلى أقصاها..ويأتي في سياقها ذلك التقدم العلمي والتقني الهائل الذي حل مشكلات كثيرة جدا فيما يحمل في ذاته مشكلات أخرى بسبب من طبيعته ومضمون المفاهيم القيمية التي تشكل خلفيته الفكرية وتقود خطاه وتوجه سلاحه..وهنا مكمن الخطورة الذي يحتاج إلى قراءات تحليلية نقدية ..
فليست المشكلة في العولمة بحد ذاتها بما تعني تقريب المسافات وتسريع التواصل بين البشر ؛ بل في رسالة العولمة الثقافية : الفكرية والسلوكية والتي تقف خلفها قواها الرأسمالية – الإمبريالية ذات التوجهات الإستعمارية الصرفة ..
وبالعودة إلى موضوع : مستقبل الأجيال العربية الجديدة في ظل العولمة وحروبها على الهوية ؛ فإنه من الواجب التفريق بين تأثير العولمة في بلاد العالم المختلفة وتأثيرها في المجتمعات العربية وتحديدا على الأجيال الجديدة..
ولعل أهم أسباب هذا التباين في التأثير يعود إلى سبب جوهري يتمثل في أمرين أساسيين :
الأول : إختلاف مراحل ومستويات التطور في كل مجتمع ..فضلا عن طبيعة المشكلات والتحديات التي يواجهها والقضايا الأولوية التي يحتاجها..إذ ليس الوضع متشابها بين مجتمع موحد متحرر تحكمه سلطة وطنية وسط إتفاق عام على الهوية والإنتماء ؛ وبين مجتمع آخر مجزأ تتحكم فيه مقادير متنازعة وسلطات هاملة وتدخلات خارجية من كل نوع..كما هو حال الواقع العربي..
الثاني : غياب إستراتيجيات عربية واضحة ومسؤولة تتصدى لمخاطر العولمة وتعالج مشكلاتها بما يحمي الإنسان والأجيال الشابة عموما..أما الجهود الفردية والمؤسساتية التي يقوم بها كثيرون لبيان مخاطر العولمة وتسفيه قيمها السلوكية ؛ إلا أنها تبقى دون فعالية وازنة نظرا لكونها تصدر عن مراكز وفعاليات شعبية لا تملك سلطة القانون الذي يحمي والقرار الذي يضمن والتنفيد الذي يصون..
لا يعني هذا أن ليس للعولمة تأثير سلبي على المجتمعات غير العربية ..لكنه تأثير متفاوت تبعا لظروف وإمكانيات كل مجتمع وطبيعة السلطة القائمة عليه..أعظمها تأثيرا سلبيا يحدث في مجتمعات العرب حيث تخصص لها حروب خاصة تعمق فعل العولمة السلبي لأسباب تتعلق بطبيعة الوطن العربي وقدراته ومواقعه الحساسه وإمكانياته الهائلة البشرية والطبيعية والتي تشكل خطرا كبيرا على المصالح الإستعمارية فيما إذا أديرت بمنهج توحيدي وعقل جامع على أساس من وحدة المصير والمستقبل العربيين..فتأثير العولمة السلبي يتضاعف مرات ومرات في الوطن العربي و المجتمعات العربية
؛ فبات لازما دراسة آثار العولمة في مجتمنا العربي وبيان أساليبها في السيطرة على العقول كمدخل للسيطرة على القرار والقدرات والمقدرات..
مع العلم أن من يملك سلطة القانون والقرار لا يلتفت أبدا لمواجهة هذه الأخطار ؛ لا بل أنه ، بوعي أو بغير وعي ، يتخذ من الإجراءات الملزمة ما يسهل طريق العولمة وتسلل قيمها إلى العقول والنفوس..بما يعني أنه شريك محتمل لقوى العولمة في إبعاد الأجيال الجديدة عن أي إهتمام عام بالتخلي عن الهوية والإنتماء والإلتزام..وبهذا يكون جنديا في خدمتها للإطاحة بالهوية وما تحمله من معان وقيم وإلتزامات..
يتضح جليا في سياق العقود الخمسة الأخيرة
أن ثمة حربا عالمية شاملة موجهة ضد أمتنا العربية وما تحمله من قيم مشتركة تمثل هويتها..حرب تخوضها قوى العولمة الرأسمالية في كل ميدان من ميادين الوعي والحياة والسلوك..
تتبنى تلك الحروب بندين أساسيين في مواجهة الشعب العربي :
الأول : إضعاف ومحاربة كل مقومات المناعة الذاتية في الفرد وفي الجماعة لتسهيل التحكم والسيطرة..وفي مقدمتها تفكيك المجتمع وتشتيته..
الثاني : تسخيف ومحاربة مقومات الهوية الجامعة المانعة وكل ما هو توحيدي موحد وإستبدالها بما يسرع في التشظي والتفكك..
إعتمدت قوى العولمة في محاربة الأمة الوسائل التالية :
1- تفكيك الروابط المجتمعية وتعميق المشاعر الإقليمية
2 – تحفيز وتعميق كل العصبيات الإنقسامية من كل نوع وتصنيع الأدوات المحلية اللازمة لذلك.
3 – تسخيف وتشويه العروبة كهوية جامعة وكذلك كل ما يوحد ويجمع في الثقافة والوعي والسلوك..
4 – تفكيك الأسرة وصولا إلى تفكيك الإنسان ذاته..
5 – تنمية التعليم الخاص على حساب التعليم الوطني – القومي العام..
6 – إنحلال الدولة ومؤسساتها وصولا إلى الإضمحلال وتغييب أية سلطة للقانون ..وإغراق المواطن في تفاصيل تحصيل المعيشة بمفرده..وإسقاط فكرة الإنسان – المواطن وتحويله إلى إنسان متسول تابع..
7 – تشويه وتسخيف الثقافة المشتركة إنطلاقا من تشويه وتسخيف التراث والتاريخ والمنجزات الحضارية..
8 – تشويه الرموز التاريخية والأبطال القادة لإزاحتهم كقدوة وتصنيع نجوم تافهة لتكون قدوة للأجيال..
9 – تزييف الوعي وإصطناع إهتمامات وقضايا هامشية وسخيفة ..
10 – محاربة القيم الأخلاقية وتطبيع العقل الجماعي والفردي على كل أنواع الفساد من أول الرشوة إلى آخر أنماط السلوك المنحل..
11 – تعميم أنظمة في التربية ” الحديثة ” تلغي قدرة المجتمع والأهل على توجيه وضبط سلوك أبنائهم..
12 – تفريغ الإيمان الديني من مضمونه الإيجابي وإعلاء كل ما يتعلق بالمظاهر الدينية والشكل الديني على حساب المضمون..
ويبقى السؤال : كيف تمكنت قوى العولمة من فعل كل هذا في مجتمعاتنا العربية حتى باتت تهدد مستقبل الأمة كله بخلق أجيال من الشباب اللا منتمي ، المفتقد للوعي بالهوية والإحساس بالإنتماء إليها ؟؟ يتبع ..