
لسنا هنا بصدد الحديث عمّا جرى من أحداثٍ داميةٍ ومريبةٍ في السويداء، إنّما هي دعوةٌ إلى فهم بعضِنا، وفهمِ ما تتركه المآسي في أنفسِنا من جراحٍ، إذ إنّ جهلَنا بعضَنا بعضًا يكاد يكون مصدرَ كلِّ خرابٍ.
ولا أظنّه اعترافًا مبالغًا فيه إذا قلنا إنّنا، إلى الآن، لم نفهم بعضَنا، كما لم نفهم خصوصيّةَ أهلِنا في السويداء، ولم ندرك عمقَ الجرحِ الذي حلَّ بهم، ولا ما الذي يدفعهم إلى كلِّ هذا السخطِ والعتبِ القاسي والمرير.
وأعتقد أنّ ذلك يعود إلى أنّنا نتطلّع إليهم، وإلى بعضِنا بعضاً، بعينٍ جاهلةٍ ومرتابةٍ، لا بعينِ الأخِ العارف. فلو كنّا على درايةٍ بخصوصيّتهم، وبمعنى الوجودِ والحياةِ عندهم، لربّما ما حدثَ ما حدثَ لهم، ولأهلِنا من أبناءِ العشائرِ وغيرِهم، في تلك المذبحةِ الرهيبة.
ومن المؤكّد أنّنا، في مسيرةِ حياتِنا السورية، ولِفظاعةِ ما حلَّ بنا، فاتنا فهمُ كثيرِ من المعاني والأشياء من حولِنا. نسيرُ جميعًا حفاةً على قطعِ الزجاج، وبالكاد نحاولُ تفادي ما أمكن من الجروح، وهو ما يجعلنا لا ننتبهُ إلّا للحالِ الذي نحن فيه، وما يمسُّنا وحدَنا.
غالبًا ما يترقّب أبناءُ السويداء لحظةَ اجتماعِ السوريين مع بعضِهم ليبادروا إلى الاجتماع معهم، إذ إنّ أكثرَ ما يخشاه أبناءُ هذا المكوّنِ هو التناحراتُ والصراعاتُ بين الطوائفِ والمذاهبِ والأعراق، خوفًا على دمِهم.
ولنعد الآن إلى أهلِنا في السويداء، حيث يقول التاريخُ السياسي إنهم، كغيرِهم من الجماعاتِ البشرية، نشؤوا في ظروفٍ خاصةٍ ميزتْها الدعوةُ التوحيدية في مصر مطلعَ القرنِ الحادي عشر، إبّان الحكمِ الفاطمي الذي استمرّ ما يقارب مئةً وخمسين عامًا. وفي نهايةِ المطاف توقفت دعوتُهم، وكان مصيرُهم الطردَ والاستئصالَ من البيئةِ التي نشؤوا فيها، لينزحوا في النصف الأول من القرنِ نفسه من مصر إلى جبالِ لبنان، ثم بعد مضي ستةِ قرونٍ تقريبًا نزحت جماعاتٌ منهم إلى جبلِ العرب في السويداء، هربًا من الاضطراباتِ والصراعاتِ التي عصفت بلبنان آنذاك. أي إنّ عمليةَ الاستئصالِ والطردِ لهذا المكوّنِ البشري لم تكد تتوقف.
وربّما نحن السوريين نعرفُ عن تاريخِ بعضِنا أكثرَ ممّا نعرفُ عن حاضرِنا، وما يجولُ في أعماقِ كلٍّ منّا. لكنّنا من سرديّاتِ ذلك التاريخ ما زلنا نتعامل مع بعضِنا من دون اكتراثٍ لما شكّله تاريخُنا الثقافي من خصوصيّةٍ في أنفسِنا، وهنا – في اعتقادي – تكمُنُ واحدةٌ من أخطر مصائبِنا.
ويدركُ علماءُ النفسِ والاجتماعِ والسياسةِ أنّ عمليّاتِ الاقتلاعِ والاستئصالِ والطردِ تُشكّل صدمةً نفسيّةً هائلةً في النفسِ البشرية، وتجعلُها في حالةٍ دائمةٍ من الرعبِ وعدمِ الشعورِ بالأمان.
وربّما من هذين الشعورينِ المريبين انبثق الدافعُ الرئيسيُّ للّجوء المكوّن الدرزي إلى الجبالِ والاحتماءِ بها، طلبًا للأمان من شرور الأعداء.
توقفت دعوتُهم مع اختفاءِ الخليفةِ الحاكمِ بأمرِ الله، حين فقدوا ثقتَهم بالغير، وباتوا مرتابين من كلِّ شيء، وعاشوا لفترةٍ طويلةٍ مرتابين من بعضِهم بعضاً، خشيةَ أن يكونَ غريبٌ قد تسرّبَ بينهم ليغدرَ بهم.
وحتى الآن يعيشون هذا الارتيابَ، ولكن باتجاهٍ معكوسٍ هذه المرّة؛ فالريبةُ لم تَعُدْ تأتي من الداخلِ عليهم، لأنّ هذا أمرٌ لم يعُد مطروحًا، إنما من الخارجِ تجاه غيرِهم، تحسّبًا من أن يُفضَح سرُّ شعائرِهم ودفاترِهم ورؤاهم وتطلّعاتِهم التي يجتمعون حولها لمواجهةِ الامحاءِ والزوالِ والجراح.
ولجميعِ المكوّناتِ البشرية، سواء أكانت عرقيّةً أم عقائديّةً أم حزبيّةً، مثلُ هذا القلقِ والإحساس، فكيف بنا وتاريخُنا العربيّ حافلٌ بالفِتنِ والمذابحِ والحروب.
ومآسي التاريخِ الكبرى ومذابحُه، إنْ وقعت بحقِّ مجموعةٍ بشريةٍ قليلةِ العدد، لا تُمحى من الذاكرةِ أبدًا، بل تُورَّث عبرَ الأجيال، يتحصّنون بها درءًا لمذابحَ جديدة.
وطالما أن الدروز ارتضَوا لأنفسِهم أن يكونَ دينُهم محصورًا بينهم، لم تعُد لديهم حاجةٌ ولا رغبةٌ في أن يُورّثوا تلك الذواكرَ لغيرِهم.
وبذلك تبقى حكايةُ الوجعِ حكايتَهم، والسرديّةُ التاريخيّةُ سرديّتَهم وحدَهم، تنذرُهم بمخاطرِ أن يتضاءلَ عددُهم، ولهذا إن وقعَ الدمُ عليهم يكون وقعُه صاعقًا ورهيبًا.
هم لا يبحثون إلّا عن السلامِ والأمان، تحسّبًا من أن يتعدّى أحدٌ عليهم. ومن هذا المنطلق يمكن أن نُفسّر وقوفَ الأغلبيّةِ منهم على الحيادِ في أثناءَ الثورةِ السورية، وكذلك عدمَ إرسالِ أبنائِهم إلى الجيش. فما من جحيمٍ فرديٍّ بالنسبةِ إليهم، إذ إنّ أيَّ تهديدٍ يتعرّضُ له الفردُ هو تهديدٌ وجحيمٌ لهم بأسرِهم.
وعليه اختاروا الجبالَ البعيدةَ عن الناس، يتحدّون فيها أقسى أنواعِ الشقاءِ والعذاب، مقابلَ ألّا يُمَسَّ لهم ثوبٌ، ولا عقالٌ، ولا عقلٌ، ولا كرامةٌ أو دمٌ.
هكذا هم أبناءُ السويداء: يعرفُ بعضُهم بعضًا بدروبِ الشقاءِ والنحتِ في الصخر، وكأنّ ثمّة شِيفراتٍ روحيةً ونفسيّةً وفكريةً تدلّهم.
وفي قناعتِهم الراسخة، إنْ لم يُخرِجوا هم نقطةَ الماءِ من البئر، والقمحَ من الصخر، فلا شُربَ ولا طعمَ لهم في هذه الدنيا على حسابِ كرامتِهم، وإنْ كان مصيرُهم الموت.
وحين اختارت مجموعاتٌ منهم النزولَ من الجبالِ والطوافَ في المدنِ السورية في النصفِ الأول من القرنِ التاسع عشر، بدؤوا انفتاحهم على الآخرين حين شعروا بلحظاتٍ من الأمان مع إخوتِهم السُّنّة وغيرهم من السوريين، ووجدوا فيهم ملجأً دونَ الجبال، ولهذا كانوا من أوائلِ الداعين إلى وحدةِ سوريا، رافضين تقسيمَها.
وغالبًا ما يترقّب أبناءُ السويداء لحظةَ اجتماعِ السوريين مع بعضِهم ليبادروا إلى الاجتماع معهم، إذ إنّ أكثرَ ما يخشاه أبناءُ هذا المكوّنِ هو التناحراتُ والصراعاتُ بين الطوائفِ والمذاهبِ والأعراق، خوفًا على دمِهم.
صحيحٌ أنهم يتعاملون مع الآخرين بريبةٍ وحذرٍ، ولكنّ هذا لا ينفي أنهم بمنتهى اللطفِ والرقيِّ والسلام، متجنّبين الخوضَ في أيّ صراعٍ أو احتكاك. وإذا ما حلَّ الغريبُ بدارِهم، ولشدّةِ اعتزازِهم بذواتِهم، أطعموه بكرمِ حاتم الطائي، رغمَ أنّ لا جمالَ عندهم، فقط حجارةٌ سوداءُ وصليلُ ريحٍ، لكنهم يفعلون ذلك لئلّا يُحسبَهم الغيرُ ضعفاءَ أو معوزين، وليُثبتوا مقدارَ عزيمتِهم، وأنهم ينحتون الصخرَ والصبرَ، ومنهما يستخرجون الطحينَ والخبزَ والزيتَ. ودائمًا قلوبُهم تتلصّص على عتمةِ الليل، وتصغي لصوتِ الريحِ تحسّبًا من أن تحملَ معها خطرًا يُهدّد وجودَهم.
ربّما من مثلِ هذه الرؤيةِ يمكن أن نفهمَ هذا السخطَ الرهيبَ الذي حلَّ بهم، وأن نفهم صرخاتِ المكلومين والمذعورين، وحتى إنْ اتّهمنا بعضُ منهم بأننا وحوشٌ.
فلنا أن نتخيّل كيف سيكون حالُهم وقد باغتتْهم الريحُ هذه المرّة، وحملتْ معها ما كانوا يخشَون، وما عاشوه قبل أعوامٍ قليلةٍ حين أرسل إليهم الأسدُ المخلوعُ العصاباتِ الداعشية؟ وها هي أبصارُهم لا ترى إلّا أشباحًا مدجّجين بالسلاحِ ومقنّعي الوجوهِ يقتحمون فضاءَهم ودورَهم.
لا شكَّ أنّها، عندهم، تُعادل يومَ القيامة، وهو يومٌ يستدعي النفيرَ، ويزهدُ كلُّ من به عقلٌ بعقلِه أمام هذا المصابِ الرهيب.
ومن قولِ اللهِ سبحانه يمكن أن ندرك مقدارَ أهوالِ تلك الأيامِ التي مرّت عليهم، وهم الذين كانت الجبالُ عندهم مكانَ أمانٍ، غدت في لحظةٍ أشبهَ بوادٍ سحيقٍ يسوقُهم إلى الهلاك، وما كان لهم إلّا أن يصرخوا ويستغيثوا وينادوا:
“إننا نموت، إننا نُذبح ونُقتل ونُحرَق، ويُرمى بأبنائنا من على الشرفات! أين أنتم يا إخوتَنا السوريين؟!”
نعم، لو أننا نفهمُ الغيرَ ونفهمُ ظروفَ وخصائصَ تكوينِ بعضِنا، لربّما ما وصلنا إلى ما وصلنا إليه، ولرأينا المشهدَ بعينٍ أوسعَ ووعيٍ مغايرٍ.
ولقلنا للسيدةِ رشا، تلك الأم التي فقدت أبناءَها الثلاثة: رحمَاكِ أيتها الأم. وهي التي نبتت، كغيرِها من أمهاتِ ونساءِ السويداء، من بين الحجارةِ السوداءِ والصخرِ والبَردِ والحرِّ، ودفعت عمرَها وشبابَها وصباها لتربّي وتُعلّم أبناءَها الثلاثة ليبلغوا المجدَ ويكونوا سندًا وعونًا لها، لا لتراهم يُقتلون بتلك الطريقةِ الوحشية، والكاميرا تُصوّر! سامحينا أيتها الأم، إن كنا لم ندرك بعدُ أنّ ما حلَّ بكِ يوازي حرَّ لهيبِ زيتٍ يُصبُّ في قلبِكِ ويحرقُه! ولو أننا وعينا سخطَكِ وبكاءَكِ المرَّ، لما حاججناكِ، ولا حاججنا غيرَكِ من الأمهاتِ بأيّ أمرٍ!… يا لجهلِنا!
وما جرى للسيدةِ رشا لم يكن رميًا لأولادِها وحدَها من الشرفة، إنما هو، عند الدروز، قتلٌ ورميٌ لهم جميعًا في المحرقةِ. والقصةُ عندهم أوسعُ من حرقِ قلبِ أمٍّ واحدةٍ، إنما هي أيضًا حرقٌ لقلوبِ أمهاتِ ونساءِ السويداء جميعًا. ولهذا هنَّ، إلى الآن، يتعاملن مع بيوتِهنّ على أنها بيوتُ عزاءٍ، حتى المحترقةُ منها.
واحتراقُ البيوتِ عندهم هو احتراقٌ لصومعةِ القداسة، والحامي الأوّل من الخوفِ وصقيعِ البرد، وكلُّ ركنٍ وغرضٍ فيها مشغولٌ من تعبٍ وعرقٍ وصوتِ حكايةٍ، ولهذا كان ذلك عندهم نذيرَ هلاك.
وربّما من مثلِ هذه الرؤيةِ يمكن أن نفهمَ هذا السخطَ الرهيبَ الذي حلَّ بهم، وأن نفهم صرخاتِ المكلومين والمذعورين، وحتى إنْ اتّهمنا بعضُ منهم بأننا وحوشٌ.
كما لم تكن حوادثُ حلقِ الشاربِ لتقلَّ خطرًا عندهم عن بقيّةِ الأحداث، فالشاربُ الممتدُّ كجناحَي نسرٍ على وجوه رجالِهم يُراد به إخافةُ قلوبِ أعدائِهم ليأمنوا شرَّهم، ومن خلاله يُشيرون إلى أنهم رجالٌ أشدّاءُ يُعتمدُ عليهم، وإنِ اتّكأ أحدٌ على أكتافِهم فكأنما يتّكئ على الصخر.
ولهذا هم يحمون المستجيرَ إنْ دخل دارَهم، وقلما يفرّطون به، ومن جراءَ الاقترابِ من ذلك الرمز، ومن كلّ ما حدث، حلَّ بهم هذا الغضبُ والسخطُ، وما عاد هناك متّسعٌ للعقل. فهم، ربّما، حتى وإن تَلَفّتوا إلى العقل وتأمّلوا ما حدث، لبدت الجريمةُ أكبرَ وأكثرَ فداحةً ممّا أبصرَه الجنون.
ومن شبهِ المؤكّدِ أنّهم لن يصفحوا، ولن يشعروا بالأمان، إلّا إذا رأوا قاتلي أبنائِهم، وحارقي بيوتِهم، ومختطفي نسائِهم، وقد حلّوا في قفصِ العدالة، وما دونَ ذلك لا كلامَ يُقال، ولا جراحَ تُشفى.
وما وردَ آنفًا لا يدخلُ في طورِ الجبرِ أو التبرير، وإنّما هو محاولةٌ لفهمِ جراحِ وسرديّاتِ بعضِنا، توسيعًا للرؤيةِ أكثر.
وبالعموم يرتبطُ ساكنو الجبلِ في مخيّلتي بصورةِ الأخِ الأكبر؛ ذاك الذي يتطلّع إلى الآخرين من علٍ، لتبدو له الأشياءُ أوضحَ، ومن ذلك العلوّ قد تولدُ الحكمةُ وبُعدُ النظر، سعيًا لعيشٍ مشتركٍ في دولةٍ موحّدةٍ كما كان حلمُنا الأوّل.
المصدر: تلفزيون سوريا