
ليست الفلسفة خطراً على الإيمان، بل هي التي تحميه من التحجّر. ليست علوم الإنسان عبئاً على التنمية، بل هي شرطها الأول. فحين يُخرس السؤال، ويُقدّس الجهل، تُترك المجتمعات عاريةً أمام الاستبداد والتعصب معاً. في العالم العربي، نعيش مفارقة مذهلة، حيث يتم تقديس العلم، وفي المقابل، تتم معاقبة التفكير. يجري بناء الجامعات ويتم التضييق على العقول. تُشاد المختبرات، وتُخنق الأسئلة. الأنظمة التي تُغني صباحاً ومساءً بأغنية التنمية والابتكار، هي نفسها التي ترتجف حين يُطرح سؤال بسيط عن الحرية، أو المواطنة، أو العدالة، أو الكرامة.
منذ عقود، تميل معظم الدول العربية إلى تمجيد العلوم التطبيقية على حساب العلوم الإنسانية، فالطب والهندسة والتكنولوجيا تُقدَّم بوصفها مفاتيح المستقبل الوحيدة، بينما تُعامل الفلسفة والتاريخ والاجتماع وعلم السياسة بوصفها مواد “نظرية” لا تُطعم خبزاً. هذه ليست مجرّد نزعة تعليمية بريئة، بل سياسة فكرية واعية تهدف إلى إنتاج مواطن يُنفّذ ولا يُفكّر، فالمهندس والطبيب لا يُربكان النظام عموماً، أما الفيلسوف والمفكر وعالم الاجتماع فهم وحدهم القادرون على مواجهته ومساءلته. لذلك تتم محاصرة علومهم بهدوء، حيث تُقلَّص ميزانياتها، تُحذف مناهجها النقدية، وتُشوَّه صورتُها بربطها بالإلحاد أو قلة الجدوى. النقد يُعامل بوصفه وقاحة، والسؤال جريمة فكرية.
ولم يأتِ هذا التهميش من السلطة السياسية وحدها، بل وجدت فيه التيارات الدينية المتشددة حليفاً مثاليّاً. فالفلسفة تُعلّم التساؤل، والسؤال عند المتطرّفين بذرة شكّ، والشكّ كفر. هكذا التقت مصلحة المستبد السياسي مع المتشدّد الديني على هدفٍ واحد: خنق العقل. يخاف الأول من وعيٍ سياسي يُطالب بالحقوق، والثاني يخاف من وعيٍ ديني يُسائل التفسيرات الجامدة. كلاهما يريد طاعةً لا فكراً، إيماناً بلا تفكير، واتباعاً بلا جدال.
حين تُختزل الجامعة إلى مختبر تقني، تصبح عقول الشباب صيداً سهلاً لكل من يبيع اليقين السريع
ومن هذا التحالف، وُلد جيلٌ مطواع، يقدّس التلقين ويخاف من الشك. جيلٌ يعرف كيف يُشغّل التقنية، لكنه يفتقر إلى البوصلة الأخلاقية والفكرية التي تُوجّه هذه التقنية. يستطيع تصميم تطبيقاتٍ ذكية، لكنه لا يسأل لمن تُستخدم، ولا ضد من. تحوّل التعليم إلى مصنعٍ لإنتاج “الاختصاصيين” بدل “المواطنين”. الطالب يُدرّب على السوق لا على الفهم، على الإنتاج لا على النقد، على الفردية لا على المسؤولية. ومع الوقت، صار التعليم وسيلةً لإدامة النظام لا لتغييره.
اليوم تحصد المجتمعات العربية نتائج هذا الخلل البنيوي، فتنتشر توتراتٌ اجتماعية، صراعات هوية، تطرّف ديني، وانفصال بين القيم والعلم. التكنولوجيا تتقدّم بسرعة، والمجتمع يتآكل ببطء. لدينا علماء بارعون في البرمجة الإلكترونية، لكنهم عاجزون عن برمجة الوعي. يتم تشييد المدن الذكية، لكن عملية بناء الإنسان الذكي لم تنجح بعد. تتم مراكمة الأجهزة الحديثة، ولا يتم إنتاج وعي حديث.
ليست العلوم الإنسانية ترفًا فكريًّا كما يُشاع، بل هي علم الإنسان بالإنسان. هي التي تُعلّمنا كيف نفكر، وكيف نحيا معًا، وكيف نفهم السلطة والحرية، والاختلاف، والتنوّع، والمواطنة. الفلسفة تُهذّب العقل، والتاريخ يُنضج الذاكرة، وعلم الاجتماع يُفكّك جذور الظلم. هذه العلوم تمنح المجتمعات مناعة فكرية ضد الاستبداد والتعصب، ولذلك تُحارَب، لأنها تُعلّم السؤال، والسؤال أول خطوة نحو الحرية.
حين تضعف هذه العلوم، تقوى الخرافة، ويعلو صوت الفتوى، ويزدهر التطرّف، فالتطرّف يعيش على الجهل، وينتعش في غياب العقل النقدي. وحين تُختزل الجامعة إلى مختبر تقني، تصبح عقول الشباب صيداً سهلاً لكل من يبيع اليقين السريع. من لا يتعلم التفكير، سيُصدّق أي فكرٍ جاهز، مهما كان هشّاً أو متناقضاً.
المجتمعات التي تُقصي الفكر تُنتج التطرّف، وتحتقر الفلسفة، تُعيد إنتاج الطاعة بأشكالٍ جديدة
لا يُقاس التقدّم بعدد المختبرات، بل بنوعية الأسئلة التي تطرحها المجتمعات. والحرّية لا تُصنع بالتكنولوجيا، بل بالعقل الذي يعرف كيف يستخدمها. لا يمكن لأمةٍ تخاف من الفلسفة أو تُجرّم التفكير المستقل أن تدّعي الحداثة، ولا حتى السعي إلى الحداثة. الشك لا يمكن أن يعتبر خطيئة، بل هو تمرينٌ على الحرية، وأول درجات الإيمان بالعقل.
لقد آن الأوان لأن يُعاد الاعتبار للعلوم الإنسانية في مدارسنا وجامعاتنا. أن تُدرّس الفلسفة لا لتغرس الإلحاد، كما يدّعي محاربوها، بل لتُعلّم التفكير، وأن يُعاد علم التاريخ ليكون ذاكرةً حية لا أداة تزيين سياسي أو دعاية عقائدية، وأن يُدرّس علم الاجتماع بوصفه مرآةً لواقعنا العربي لا وافداً غريباً أنتجته قوى الاستعمار التي تتأبط بنا شرّاً. العلوم التطبيقية تُعلّمنا كيف نبني الجسر، أما العلوم الإنسانية فتُعلّمنا لماذا نعبره، وإلى أين. الأولى تُنتج القوة، والثانية تُعطيها المعنى. ومن دون هذا المعنى، تتحوّل المعرفة إلى سلطة، والعلم إلى أداةٍ في يد من يملك لا من يستحق.
المجتمعات التي تُقصي الفكر تُنتج التطرّف، وتحتقر الفلسفة، تُعيد إنتاج الطاعة بأشكالٍ جديدة. لا نهضة من دون عقلٍ حر، ولا حرية من دون وعيٍ إنسانيٍّ يعيد الإنسان إلى مركز المعرفة. قد لا نحتاج إلى مزيدٍ من العلماء، بل إلى مزيدٍ من العقول الحرّة، فالتاريخ لم تصنعه المختبرات، بل تلك اللحظة التي قرّر فيها إنسان أن يُفكّر. وربما عندها فقط، سننتقل من أمةٍ تخاف من التفكير إلى أمةٍ تفكّر بلا خوف.
المصدر: العربي الجديد