
عامان مرّا منذ اندلاع النار الكبرى في 7 أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، وما زال السؤال نفسه الذي فقد معناه يُطرح: من الذي انتصر؟ كأن الحروب الحديثة تُقاس بالأرقام والخرائط، أو كأن عدد القتلى والبيوت المهدّمة كافٍ ليكتب التاريخ خلاصاته الباردة. ولكن، في الحروب غير المتكافئة، لا يُقاس النصر بعدد الدبّابات التي دمّرت ولا الهزيمة بحجم الأنقاض، بل بما يتبقّى من المعنى، وبما يستطيع الإنسان أن يحتفظ به من كرامة وسط الجحيم. في غزّة، خرجت كل المعاني من تحت الركام، واكتشف العالم أنّ ما يجري هناك ليس حرباً للدفاع عن النفس كما تدّعي إسرائيل، بل حربٌ على فكرة الوجود نفسه، على الإنسان في أكثر أشكاله هشاشة وإصراراً على الحياة، ولكن أيضاً في أقوى تجليات مقاومته دفاعاً عن عرضه وأرضه وإنسانيته.
خاضت المقاومة الفلسطينية معركة وجود لا معركة سلاح. دفعت أثماناً باهظة من دمها وذاكرتها وبنيتها العسكرية وحاضنتها الاجتماعية، لكنها لم تستسلم. وفي المقابل، اكتشفت إسرائيل التي وعدت شعبها والعالم بـ”نصر مطلق”، أنّ القوة، مهما بلغت، لا تستطيع أن تُخضع روحاً جماعية متجذّرة في الأرض والتاريخ والذاكرة. القطاع الذي كان مزدحماً بالحياة صار خريطة خراب، مدن مسحت من على وجه الأرض، مستشفيات أحرقت، مدارس تحولت إلى ملاجئ ومقابر جماعية، وجيلٌ كامل وُلد بين الأنقاض بلا مدرسة ولا سقف ولا ضوء ولا ماء. النكبة التي ظنّ العالم أنها فصل منسي في كتاب قديم عادت بثوب جديد، لتفتح جرحاً لم يندمل منذ 70 عاماً، وتذكّر البشرية كلّها بأنّ الظلم حين يُترك بلا مساءلة يعود في أشكال أكثر قسوة.
من رحم المأساة خرجت فلسطين لا كأرض فقط، بل كضمير كوني، فالمقاومة الفلسطينية، رغم خسائرها الفادحة، ربحت ما لا يُقاس بالسلاح: الشرعية الأخلاقية لقضيةٍ ظلت تنبض في وجدان العالم. في العواصم البعيدة، خرجت الحناجر ترفع اسم غزّة، وفي الجامعات الغربية كُسر جدار الصمت، وصار السؤال المحظور يُطرح أخيراً: من القاتل ومن الضحية؟ منظمات حقوقية دولية أعادت تعريف المعايير الأخلاقية للعدالة، وفتحت المحكمة الجنائية الدولية ملفاتٍ ظنّ العالم أنّها ستبقى مغلقة إلى الأبد. مأساة غزة أخرجت الضمير الإنساني من غيبوبته، وأجبرت العالم على النظر في المرآة.
المقاومة الفلسطينية خسرت الأرض والقدرة والمجتمع، لكنها ربحت الوعي والرمزية
وللمرّة الأولى منذ عقود، تجاوزت فلسطين حدود الرمز لتصبح كياناً سياسياً معترفاً به، عشرات الدول الغربية اعترفت رسمياً بالدولة الفلسطينية، من فرنسا إلى بريطانيا وكندا وإسبانيا إلى أيرلندا والنرويج وسلوفينيا وأستراليا، وصوّتت أغلبية الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح توسيع تمثيلها الدولي. لم يعد الحديث عن فلسطين مجرّد لغة ٍعاطفية في قاعات الأمم المتحدة، بل صار فعلاً سياسياً يعيد التوازن الأخلاقي إلى العالم. وفي الجهة المقابلة، سقط القناع عن إسرائيل، التي وجدت نفسها أمام سابقة تاريخية: مذكرات بحث دولية صادرة عن المحكمة الجنائية في لاهاي بحق بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق بتهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وشكاوى مرفوعة ضد جنرالاتها وضباطها ومجنديها أمام محاكم أوروبية استناداً إلى مبدأ الولاية القضائية العالمية. صار القتلة يخشون السفر، وصار “الجيش الأكثر أخلاقاً في العالم” عنواناً للسخرية والاحتقار في ضمير الإنسانية.
لكن الخسارة الأعمق لإسرائيل لم تكن في الميدان، بل في الوعي الإنساني الجمعي، فالدولة التي بنت مشروعها على رماد الهولوكوست فقدت سلاحها الأخلاقي، بعدما نزعت صور الإبادة في غزّة عنها ثوب الضحية الذي ارتدته 70 عاماً، وأسقطت سلاحها الدعائي القديم، وتهاوت أسطورة “معاداة السامية” سوطاً تستخدمه لإسكات الضمير الغربي، وانفتح باب جديد للحقيقة: أن انتقاد الاحتلال ليس كراهية لليهود، وأن الدفاع عن فلسطين ليس إنكاراً للمحرقة. بل إنّ يهوداً تقدميين كثيرين أنفسهم باتوا يعلنون أنّ إسرائيل خانت ذاكرة الهولوكوست، حين جعلت من معاناة الأمس رخصةً للقتل اليوم. هكذا انهار ابتزاز أخلاقي استمر عقوداً، وتحرّرت أوروبا والغرب من عقدة الذنب التي شلّت ضميرهما طويلاً.
الدم لا يصنع أمناً، والخراب لا يؤسّس سلاماً، والنصر الذي يقوم على أشلاء الأطفال ليس نصراً بل سقوط في الهاوية
في ميزان المعاني، الكل خرج مثقلاً. المقاومة الفلسطينية خسرت الأرض والقدرة والمجتمع، لكنها ربحت الوعي والرمزية. إسرائيل ربحت معركةً بالنار، لكنها خسرت المعركة على المعنى. أمّا القضية الفلسطينية فقد نزفت دماً كثيراً، لكنها استعادت مركزها في النقاش العالمي، وأعادت إلى الضمير البشري معنى العدالة. لقد تحوّلت غزّة إلى مرآة العالم: فيها انكشفت أقنعة التحضّر، وانفضحت ازدواجية المعايير، وفيها سقطت أسطورة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وفيها استعاد الإنسان، ولو لحظة، حسّه الأخلاقي الذي أضاعته الصفقات والخرائط وشوّهته الدعاية الصهيونية.
وحين نبحث عن معنى ما جرى، لا نجد المثال في ساحات المعارك فقط، بل أيضاً في التاريخ الإنساني الذي يروي كيف يمكن للفكرة أن تنتصر على الرصاصة، وللعدل أن يهزم السيف. كما انتصرت حركة التحرّر في جنوب أفريقيا على نظام الفصل العنصري حين وقف نيلسون مانديلا أمام سجّانه، وقال له: “نحن نحارب كي نكون بشراً”. لم ينتصر مانديلا بالسلاح، بل بالكرامة، ولم يُهزم النظام العنصري في المعركة، بل في المعنى. وحين خرج السجين من زنزانته إلى الرئاسة، لم يكن ذلك نصراً سياسيّاً فقط، بل انتصاراً للضمير الإنساني على الهمجية. وما يجري اليوم في فلسطين يعيد صدى تلك اللحظة: حين تنهزم القوة أمام الفكرة، وتنكسر الهمجية أمام الكرامة، ويُهزم الاحتلال في المدى الطويل لأنه يفتقد ما لا يُشترى: العدل.
عامان مرّا على حرب الإبادة، وكلّ شيء تغيّر إلا المعنى. فالدم لا يصنع أمناً، والخراب لا يؤسّس سلاماً، والنصر الذي يقوم على أشلاء الأطفال ليس نصراً بل سقوط في الهاوية. ليست الهزيمة الحقيقية حين تُهدم المدن، بل حين يُمحى الصوت، وغزة، رغم كل شيء، لم تفقد صوتها. ما زالت تقول للعالم كل يوم، بصوتٍ متعبٍ لكنه عنيد، الهزيمة ليست نهاية بل بداية شكلٍ آخر من الوجود، ففي النهاية من يملك المعنى لا يُهزم، ومن يملك الذاكرة لا يُمحى، ومن يعيش رغم الإبادة يكتب للتاريخ الصفحة التي لا يستطيع المنتصرون محوها.
المصدر: العربي الجديد